حريق "سنترال رمسيس" بمصر يعيد فتح ملف الحق في السلامة والصحة المهنية
إشادة بنموذج الخليج ودول أوروبية في تطبيق المعايير والاشتراطات
أعاد الحريق المروع الذي اندلع في سنترال رمسيس بوسط العاصمة المصرية القاهرة، وراح ضحيته أربعة من العاملين، ملف تطبيق معايير الأمن والسلامة المهنية إلى الواجهة بقوة، وسط تساؤلات حادة حول مدى الالتزام بالإجراءات الوقائية في بيئات العمل الحيوية، لا سيما في المؤسسات الحكومية في الدول العربية.
وأسفر الحادث الضخم عن مصرع أربعة موظفين بالشركة المصرية للاتصالات، وإصابة 27 آخرين، في واحدة من أكثر الكوارث العمالية دموية في الأشهر الأخيرة، ما دفع جهات التحقيق لفتح ملف موسع حول مدى توافر اشتراطات السلامة والحماية المدنية في موقع الحريق.
وبحسب وزارة الصحة في مصر، فإن عدد المصابين في الحريق بلغ 27، بينهم حالات اختناق وكسور، نقلوا جميعهم لتلقي العلاج في مستشفيات القاهرة، في حين تم انتشال 4 جثامين من تحت أنقاض المبنى، فيما أفادت وسائل إعلام محلية بأن الضحايا الأربعة كانوا من موظفي الشركة المصرية للاتصالات، وتواجدوا في مقر عملهم خلال اندلاع النيران.
ونعت الشركة الحكومية موظفيها الذين لقوا حتفهم ووصفتهم بـ"شهداء الواجب"، مؤكدة أنها ستقدم الدعم الكامل لأسرهم ماديًا ومعنويًا، كما وصفتهم بأنهم "جسدوا أسمى معاني المسؤولية والإخلاص حتى اللحظة الأخيرة".
وأعلنت النيابة العامة في مصر مباشرة تحقيقاتها، وأجرت المعاينات الأولية التي أظهرت نشوب الحريق في المبنى الرئيسي المؤلف من 11 طابقًا، وامتداده إلى المبنى الملحق الخاص بالاتصالات الدولية.
كما أمرت النيابة بندب الطب الشرعي للكشف على الجثامين وسحب عينات DNA، لاستكمال التحقيقات والوصول إلى الأسباب الفنية وراء اندلاع الحريق، وتحديد ما إذا كانت هناك شبهة إهمال أو تقصير في تطبيق معايير الأمن والسلامة المهنية.
غياب خطط الطوارئ
في عام 2023، بلغ إجمالي عدد حالات إصابات العمل في مصر 8317 حالة، وهذا الرقم يمثل انخفاضًا بنسبة 15.6% مقارنةً بعام 2022، حيث كان عدد الإصابات 9857 حالة، وفق أحدث إحصاء معلن للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (رسمي).
ولم يكن حريق سنترال رمسيس الأول من نوعه، ففي عام 2005 نشب حريق هائل في قصر ثقافة بني سويف (وسط مصر)، فيما اندلع حريق هائل في مجلس الشورى عام 2008، ما يثير التساؤلات حول تكرار الحوادث في منشآت حكومية حيوية دون خطة وقائية فعالة.
وينص قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 في مادته (215) على أن "إلزام المنشأة وفروعها بإجراء تقييم وتحليل للأخطار والكوارث الصناعية والطبيعية المتوقعة، ووضع خطة طوارئ لحماية المنشأة والعمال عند وقوع كارثة".
وبحسب الخبراء والمراقبين، تفتقر معظم المباني الحكومية القديمة في مصر إلى أنظمة الكشف المبكر عن الحرائق، ولا توجد خرائط واضحة لخطة الإخلاء في حالات الطواريء، ما ينذر بتكرار الحوادث في منشآت حكومية حيوية دون خطة وقائية فعالة.
السلامة المهنية ليست ترفاً
من جانبه، أكد الدكتور أحمد غازي، المدير الإقليمي في المركز العربي الأوروبي لحقوق الإنسان والقانون الدولي، أن الحق في السلامة المهنية هو "حق إنساني أصيل، لا يقل أهمية عن الحق في الحياة"، لافتًا إلى أن هذا الحق مطبق بصرامة في العديد من الدول الأوروبية والخليجية دون أي تهاون أو استهتار.
وقال غازي في تصريح لـ"جسور بوست": "ألمس حرصًا شديدًا على احترام هذا الحق حتى في أبسط المهن المرتبطة بالخدمات اليومية، حيث يخضع العاملون لدورات تدريبية مكثفة ويتلقون توعية مستمرة حول حقوقهم وواجباتهم، وفي مقدمتها حقهم في بيئة عمل آمنة".
وأشار إلى أن "معايير السلامة المهنية ليست ترفًا تنظيميًا، بل التزام جماعي يجب احترامه من جميع الأطراف"، محذرًا من أن غياب هذا الالتزام يقودنا إلى أزمات متكررة وحوادث مأسوية كما حدث في سنترال رمسيس بمصر.
كما شدد غازي على أن العقوبات الصارمة والتفتيش الدوري والتدريب الإجباري تمثل ثلاثية ضرورية لتطبيق هذا الحق على أرض الواقع.
ومضى قائلاً: "للأسف لا يُسلَّط الضوء إعلاميًا على هذا الحق إلا بعد وقوع الحوادث، في حين يجب أن يكون جزءًا من الثقافة المهنية اليومية، تمامًا كما يحدث في الدول التي تحترم الإنسان كقيمة وحقوقه كمنظومة".
واختتم حديثه بالتأكيد على أن "وجود تعويضات عادلة هو أمر ضروري، لكنه لا يكفي وحده ويجب أن يكون بالتوازي مع أهمية الوقاية والتوعية والمحاسبة كأساس لصيانة هذا الحق الإنساني".
حقوق في حكم النسيان
بدورها قالت الحقوقية المصرية إنتصار السعيد، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، لـ"جسور بوست"، إن "حق السلامة المهنية لا يُثار عادة إلا بعد وقوع الكوارث، مؤكدة أن صيانة هذا الحق تتطلب مسارات واضحة تشمل التوعية الشاملة، المحاسبة الفورية، والتعويضات الرادعة.
وأضافت إنتصار أن "إقرار القوانين وحدها لا تكفي ما لم يتم تفعيلها بشكل صارم، كما يجب أن تكون هناك تشريعات موحدة على المستوى العربي تتوافق مع معايير العمل الدولية، ويتم التدقيق في تنفيذها دون تهاون أو تفريط في حقوق العاملين".
وترى السعيد أن معالجة أوجه القصور تبدأ من وجود جهاز تفتيش عمالي مستقل ومؤهل، يمتلك صلاحيات حقيقية لإجراء زيارات مفاجئة في مقرات العمل باختلاف أنماط ملكيتها (حكومي- عام- خاص) واتخاذ إجراءات صارمة ضد المخالفين.
كما شددت على أهمية التدريب الوقائي المستمر للعمال وأصحاب العمل، إلى جانب تطوير نظام حوكمة شفاف للإبلاغ عن الحوادث يضمن سرية المبلغين وحمايتهم.
وتابعت: "نحتاج إلى استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل أنظمة الاستشعار عن بعد والإنذار المبكر، فهي أدوات فعالة للوقاية من وقوع الكوارث، وليست ترفًا تقنيًا".
رغم التعهدات الحكومية والشركة المشغلة بدعم أسر الضحايا، تؤكد السعيد أن "صرف التعويضات المالية رغم أهميتها، لا تعوض الألم الجسدي والنفسي والاجتماعي الناتج لدى ضحايا الكوارث المهنية في أماكن العمل".
ومضت قائلة: "التعويض يجب أن يكون جزءًا من منظومة متكاملة تبدأ بالوقاية، وتمر بالتفتيش والتأهيل، وتنتهي بإعادة دمج المتضررين في بيئات عمل آمنة وصحية".
حق إنساني أصيل
تُعد السلامة المهنية أحد المكونات الأساسية لما يسمى بـ"العمل اللائق"، الذي لا يحفظ فقط كرامة العامل بل يعزز أيضًا من الإنتاجية والاستقرار الاجتماعي.
ويحتفل العالم في 28 أبريل من كل عام بـ"اليوم العالمي للسلامة والصحة المهنية"، لتخليد ذكرى ضحايا الحوادث والأمراض المهنية، بهدف تعزيز الوعي بأهمية السلامة والصحة في مكان العمل، والوقاية من الحوادث والإصابات والأمراض المهنية.
كما يسلط اليوم الدولي الضوء على حقوق العمال في بيئة عمل آمنة وصحية، ويدعو إلى تبني أفضل الممارسات في هذا المجال، لكن عدم وجود سياسات فاعلة وتشريعات حازمة يحول دون العمل في بيئة مهنية آمنة.
وتأسس اليوم العالمي للسلامة والصحة في مكان العمل في عام 2003، بتوجيه من منظمة العمل الدولية (ILO)، وذلك بهدف رفع مستوى الوعي حول الأخطار التي يمكن أن تواجه العمال في أماكن العمل، وتأكيد أهمية الوقاية من الحوادث والإصابات.
ويُعد هذا اليوم بمنزلة منصة عالمية لتبادل المعرفة والخبرات، حيث تنظَّم فعاليات وورش عمل ومحاضرات في مختلف أنحاء العالم.