من السويداء إلى بيروت: لعبة المذاهب تشتعل.. هل يدفع لبنان فاتورة صراعات الآخرين؟
من السويداء إلى بيروت: لعبة المذاهب تشتعل.. هل يدفع لبنان فاتورة صراعات الآخرين؟
من الواضح أن أمراً خطراً يحاك للمنطقة. الأحداث تتوالى بسرعة، والرسائل السياسية باتت أوضح من أن تخفى خلف شعارات السيادة الفارغة التي يلوكها المسؤولون اللبنانيون بلا طائل.
ليس من العبث أن يخرج المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط توم باراك، ليصرح بأن "لبنان جزء من بلاد الشام"، هذا الكلام ليس زلة لسان، بل هو تعبير صريح عن تحذيرات دولية وإقليمية تعيد رسم خرائط النفوذ على أنقاض الدول الضعيفة والمفككة.
ترافق ذلك مع تسريبات مشبوهة في وسائل الإعلام عن سيناريوهات خطرة "ضم طرابلس والبقاع إلى سوريا"، أو الحديث عن "حلول كونفيدرالية مذهبية" تعيد توزيع النفوذ بين الطوائف والدويلات المتناحرة. كلها أخبار يجري ضخها بخبث في الفضاء الإعلامي والسياسي، لتسخين الساحة اللبنانية واستدراج اللبنانيين إلى ملعب صراعات لا علاقة لهم بها.
وتر الطائفية
إن الترويج لمثل هذه الطروحات ليس عفوياً ولا بريئاً.. إنها جزء من لعبة خطرة تهدف إلى إعادة تحريك الأوتار الطائفية والمذهبية بين لبنان وسوريا.. الدولتان اللتان تجمعهما فسيفساء دينية وقومية متشابكة، تتحولان مجدداً إلى رقعة شطرنج لتصفية الحسابات الكبرى.
في السويداء مثلاً، أمامنا اليوم مشهد دموي لمعارك بين الدروز والسلطة السورية، يختلط فيه البعد الاجتماعي بالمذهبي والسياسي. لكن ما يجري هناك لا يقتصر على الداخل السوري، فارتداداته وصلت فوراً إلى لبنان، كما هو معتاد.
تحركت المشاعر المذهبية السنية في لبنان، وتدفقت التحركات التضامنية مع ما يسمونه "النظام السني الجديد" في سوريا. سقط قتلى لبنانيون ذهبوا ليقاتلوا في السويداء، وكأن لبنان صار مجدداً منصة للإسناد العسكري والمذهبي، لا دولة قائمة بذاتها.
في المقابل، تحركت القواعد الدرزية في مناطق لبنانية عدة، دعماً لدروز السويداء في مواجهة النظام السوري. وبهذا، صار لبنان يعيش مشهدية متكررة من الانقسامات الطائفية العابرة للحدود، وكأن اللبنانيين محكومون بأن يكونوا دائماً "ذخيرة احتياط" لصراعات الخارج.
تكرار مشهدية "حزب الله"
ما يجري اليوم هو نسخة جديدة من المشهد الذي رسمه "حزب الله" سابقاً. يوم قرر الحزب، بغطاء إيراني، التدخل عسكرياً في الحرب السورية، برر الأمر على أنه "حماية للشيعة والمراقد". ثم سرعان ما تحول إلى دعم مباشر لبقاء النظام العلوي في سوريا.
اليوم، تتكرر المعادلة ولكن بأطياف مختلفة:
السنة يرسلون مقاتلين لمساندة "النظام السني الجديد" في سوريا.
الدروز يتضامنون مع دروز السويداء ضد النظام.
المسيحيون وحدهم، للمفارقة، حافظوا على موقف متمايز، ولم يتحركوا يوماً لمؤازرة المسيحيين في سوريا، إدراكاً منهم لمبدأ الحياد. فالمسيحيون اللبنانيون يعدون أن مسيحيي سوريا هم سوريون، يعرفون خياراتهم ويختارون ما يناسبهم.
هذا الموقف المسيحي، على رغم الانتقادات التي تطوله أحياناً، هو النموذج المطلوب للخروج من هذا المستنقع: الحياد، وعدم استيراد أو تصدير الأزمات.
تصدير الأزمة
مشكلة لبنان اليوم ليست فقط في استجلاب نيران الآخرين، بل أيضاً في تصدير الأزمات إلى الخارج. بعض الزعامات اللبنانية تحولت إلى أدوات في لعبة إقليمية خطرة.
بعض يرى أن وليد جنبلاط دخل على خط الصراع الدرزي السوري، فدعم الشيخ يحيى البلعوس وحاول دفعه ليقترب من الحكم الجديد في دمشق. في المقابل، تحركت قوى درزية أخرى مؤيدة للنظام لتدعم الشيخ حكمت الهجري، فوقع انقسام درزي خطر انعكس مباشرة على الداخل السوري، وأسهم في تفجير الوضع في السويداء.
ما جرى دليل دامغ على أن لبنان، في ظل هزال دولته وانهيار مؤسساته، صار "ساحة إسناد" بالوكالة. كل طرف لبناني يدعم جماعته في الخارج، تماماً كما تدعم الجماعات اللبنانية المسلحة قوى خارجية في صراعات إقليمية منذ أعوام.
لبنان رهينة العصبيات
السؤال الذي يجب أن يطرحه اللبنانيون اليوم، إلى أين تأخذنا هذه السياسات؟
هل من مصلحة لبنان أن يكون صندوق بريد لرسائل الخارج؟
هل نريد أن نحارب عن الآخرين ونستقبل لاجئيهم ونمول صراعاتهم؟
هل المطلوب أن نكرر تجربة السبعينيات والثمانينيات عندما صار لبنان ساحة لصراعات الاستخبارات الأجنبية، فتقطعت أوصاله وتفتت مجتمعه؟
الواضح أن الدولة اللبنانية لا تقوم بدورها. هي دولة عاجزة، هشة، تفتح حدودها السياسية والدبلوماسية والأمنية أمام كل مشروع خارجي، فيما تغض النظر عن تهريب السلاح والمقاتلين، وعن الحملات التحريضية التي تشعل الفتن المذهبية على مدار الساعة.
خيار الحياد هو الحل
ما يحصل اليوم هو نتيجة مباشرة لانعدام الحياد. الدول التي لا تعتمد الحياد تصبح ساحة حروب. وعندما تتحول الشعارات إلى غطاء للصراعات المذهبية والإقليمية، يدفع الجميع الثمن.
الحياد ليس ترفاً، هو ضرورة وطنية، وهو وحده الذي يمنع لبنان من الانزلاق إلى مستنقعات المنطقة.
لا إيران قادرة على إنقاذ لبنان، لا السعودية ولا قطر ستعيد إعمار بلد تحكمه الميليشيات، ولا الولايات المتحدة أو أوروبا ستهرع لدعم دولة ترفض أن تكون دولة.
وقف الاستنزاف ومنع الانهيار
إذا لم تضبط الدولة اللبنانية الأمور فوراً، فنحن ذاهبون إلى مزيد من التفتت. إن لبنان اليوم ليس فقط على حافة الانهيار الاقتصادي، بل هو في قلب انهيار سياسي وأخلاقي أخطر.
لا يعقل أن تتحرك الأحزاب والزعامات في الداخل، كل وفق مذهبه، لدعم هذا الطرف أو ذاك في الخارج.
لا يعقل أن تصبح طرابلس أو البقاع أو الجنوب منصات صراع بالوكالة عن سوريا أو إيران أو دول الخليج.
لا يعقل أن نبقى بلداً مستباحاً لكل مشروع تقسيمي.
المطلوب اليوم قرار سيادي شجاع. قرار بمنع لبنان من أن يكون ساحة إسناد. قرار بضبط الحدود السياسية والاجتماعية. قرار بأن يكون لبنان أولاً… لا مسرحاً لحروب الآخرين.
وإلا فالتقسيم قادم. وربما هذه المرة لن يبقى شيء اسمه لبنان أصلاً.
نقلاً عن صحيفة إندبندنت عربية