أزمة في قلب البلقان.. الكراهية العرقية تعود إلى كومانوفو وتهدد التعايش السلمي
أزمة في قلب البلقان.. الكراهية العرقية تعود إلى كومانوفو وتهدد التعايش السلمي
في قلب مدينة كومانوفو بشمال مقدونيا، شهدت مباراة كرة سلة، جمعت منتخب البلاد بنظيره الروماني، انفجارًا لفظيًا للكراهية العنصرية لم يكن مجرد شغب رياضي عابر، هتافات صادمة طالت الألبان، أقلية كبيرة في مقدونيا الشمالية، حملت في طياتها روحاً فاشيةً تُذكّر بتاريخ أوروبا المظلم.
"الألباني الصالح هو الألباني الميت" و"غرف الغاز للألبان" هتافات أطلقتها جماهير، في حين كان رئيس الوزراء هريستيان ميكوسكي وعدد من وزرائه حاضرين في المدرجات دون أن يُسجَّل منهم رد فعل مباشر.
لم يكن الأمر مجرد حدث رياضي خرج عن السيطرة، بل لحظة عار تعيد طرح سؤال جوهري: إلى أي مدى ما زال التعايش العرقي في مقدونيا الشمالية هشًّا، وإلى أي حدّ تُغذّيه أزمات السياسة والصمت الرسمي؟
ردود خافتة وصمت مقلق
رغم الصدمة التي أحدثتها هذه الهتافات وفق صحيفة “جازيت إكسبرس”، كان لافتًا صمت قيادات كبرى في كوسوفو المجاورة التي يربطها بالألبان في شمال مقدونيا انتماء قومي وثقافي، الرئيسة فيوسا عثماني، ورئيس الوزراء ألبين كورتي، ووزيرة الخارجية دونيكا غيرفالا، لم يعلّقوا علنًا، ما أثار انتقادات حادة من داخل المشهد السياسي الألباني في كوسوفو.
النائب أرتان بهرامي من حزب كوسوفو الديمقراطي اتهم بصراحة كورتي وفريقه بالصمت المتواطئ، معتبرًا أنّ مشروعهم السياسي تحوّل من كونه أملًا للألبان إلى أداة تُمكّن حكومة مقدونيا الشمالية من نشر الحنين إلى الماضي القمعي اليوغوسلافي.
أما النائب داوت هاراديناج فوصف الأمر بأنه "وداع مدوٍ للألبان" تحت هتافات الإبادة، مُحمّلًا كورتي المسؤولية عن تحالف أتاح صعود حكومة تسكت أمام الكراهية.
مواقف ألبانيا وشمال مقدونيا
في المقابل، جاءت ردود ألبانيا أكثر وضوحًا وحسمًا، فقد وصفت رئيسة البرلمان إليسا سبيروبالي الهتافات بأنها مسيئة وخطيرة على التعايش، وطالبت برد فعل أقوى من قادة مقدونيا الشمالية، كذلك أعرب سفير ألبانيا في سكوبيه دينيون ميداني عن قلقه العميق، داعيًا السلطات للتحرك الجاد ومواجهة خطاب الكراهية الذي لا مكان له في الرياضة ولا في المجتمع.
من جهة أخرى، أعلنت وزارة الداخلية في شمال مقدونيا فتح تحقيق لتحديد المتورطين، في حين أدان نائب رئيس الوزراء الألباني الأصل، عزت ميكسيتي، الهتافات ووصفها بأنها هجوم مباشر على التعايش، نائب وزير الداخلية أستريت إسيني أشار إلى أن الفاعلين قلة صاخبة، مطالبًا بعدم التهوين من خطورتهم.
حتى المعارضة في مقدونيا الشمالية أدانت ما حدث، فقد اعتبر حزب "VMRO-DPMNE" الهتافات صادرة عن كيانات إجرامية تسعى لتأجيج الانقسام، في حين وصف أربين تارافاري، زعيم تحالف الألبان، الواقعة بأنها شتائم جماعية بحضور مسؤولين رسميين.
جراح لم تندمل
الأزمة لا يمكن فهمها خارج سياق تاريخ طويل من التوتر بين الأغلبية السلافية والأقلية الألبانية، حيث يشكل الألبان نحو 25% من سكان شمال مقدونيا (حسب آخر تقديرات رسمية)، ويتركزون في الشمال الغربي، وسبق أن خاضوا نزاعًا مسلحًا قصيرًا عام 2001 مطالبين بحقوق أوسع، انتهى بعقد "اتفاق أوهريد" الذي منحهم تمثيلًا أفضل وحقوقًا ثقافية ولغوية.
لكن بعد مرور أكثر من عقدين، ما تزال التوترات تندلع بشكل دوري، خاصة في لحظات الأزمات السياسية أو الحملات الانتخابية. وتؤكد منظمات حقوق الإنسان أنّ خطاب الكراهية ضد الألبان لم يختف، بل يتحوّل أحيانًا إلى عنف رمزي أو فعلي.
تحذيرات مستمرة
التقارير الأخيرة لمنظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"فريدوم هاوس" لفتت إلى استمرار تنامي خطاب الكراهية العرقي في البلقان، خصوصًا ضد الألبان في مقدونيا الشمالية، وضد الصرب في كوسوفو وألبانيا، ما يُهدد الاستقرار الهش في المنطقة.
تقرير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لعام 2024 أشار إلى أنّ مظاهر التحريض على الكراهية العرقية تزايدت بنسبة 17% في مقدونيا الشمالية مقارنة بالعام السابق، مع تسجيل 145 حادثة موثقة شملت تهديدات لفظية ورمزية وجدرانًا ملطخة بعبارات عنصرية.
وفي وقت سابق، أدان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، الإساءة العنصرية التي يتعرض لها الرياضيون ودعا منظمي الأحداث الرياضية إلى وضع "استراتيجيات لمنع العنصرية في الرياضة".
ودعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، في مؤتمر صحفي في جنيف منظمي الأحداث الرياضية إلى وضع استراتيجيات لمنع ومكافحة العنصرية في الرياضة.
ووفقاً لما ذكره تورك، لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله للقضاء على التمييز العنصري.
الأرقام تكشف عمق الأزمة
يعيش في مقدونيا الشمالية قرابة 500 ألف ألباني، وفق آخر الإحصاءات الرسمية (2021)، يمثلون ثاني أكبر مجموعة عرقية بعد السلاف المقدونيين، ورغم حصولهم على مناصب حكومية ومقاعد برلمانية، تكشف استطلاعات الرأي أن قرابة 38% من الألبان يشعرون بعدم الأمان بسبب انتمائهم العرقي، وأن 29% واجهوا مباشرة شتائم أو ممارسات تمييزية خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
في استطلاع أجرته مؤسسة "بيو" عام 2022، قال 41% من المواطنين المقدونيين السلاف إنهم "لا يرغبون" في أن يكون جارهم ألباني الأصل، وهو مؤشر خطِر يعكس اتساع الفجوة المجتمعية.
كراهية تنذر بمزيد من الانقسامات
أزمة كومانوفو الأخيرة لم تكن -وفق مراقبين- مجرد انفجار غضب من جمهور رياضي، بل صدى لتراكم خطابات سياسية وإعلامية، وأحيانًا دينية، تُغذّي الانقسام بين "نحن" و"هم"، واستغلال بعض الأحزاب لهذه المشاعر القومية لأغراض انتخابية زاد من تعقيد المشهد.
المقلق أكثر هو صمت أو تواطؤ بعض المسؤولين ممن يُفترض أن يمثلوا الألبان، ما يشعر كثيرين من الألبان بأنهم بلا حماية حقيقية، ويغذي إحساسًا عامًا بالهامشية.
ودعت منظمات حقوقية السلطات في مقدونيا الشمالية إلى: الإسراع بالتحقيق ومعاقبة المسؤولين عن الهتافات العنصرية، إطلاق حملات توعية واسعة لمكافحة خطاب الكراهية في الرياضة والمدارس والإعلام، تعزيز المشاركة الحقيقية للأقليات في صنع القرار.
كما طالبت الحكومة الألبانية وحكومة كوسوفو بأن تظهرا دعمًا علنيًا أكبر للألبان في شمال مقدونيا، ليس فقط بدافع القومية، بل بدافع الالتزام بحقوق الإنسان والديمقراطية.
نداء إنساني للتعايش
بين حناجر تُعيد ترديد شعارات الإبادة وصمت رسمي يُضاعف الجرح، يظهر الوجه القبيح للكراهية العرقية مجددًا في البلقان، لكن الأمل يبقى في أصوات العقل والشجاعة السياسية التي تدرك أن الأوطان لا تُبنى على الكراهية، بل على الاعتراف بالمساواة والاختلاف معًا.
إن أزمة كومانوفو يجب أن تكون جرس إنذار، لا للألبان وحدهم، بل لكل شعوب المنطقة بأن التاريخ لا يرحم من يتهاون في مواجهة خطاب الكراهية.. قبل أن يتحول من هتافات في مدرج إلى نار تأتي على الأخضر واليابس.