"الطلاق الرمادي" في إيران.. حين تنكسر القلوب وتتفكك الأسر بعد الستين
"الطلاق الرمادي" في إيران.. حين تنكسر القلوب وتتفكك الأسر بعد الستين
في أحد أحياء طهران القديمة، جلست "فريبا"، امرأة في الثالثة والستين من عمرها، أمام المدفأة الخافتة، تقلب صور زفافها التي مرّ عليها أكثر من أربعة عقود، "لم أعد أعرف من أكون.. لم أعد أعرف من هو"، تقول بصوت متهدج وهي تحكي عن لحظة توقيعها أوراق الطلاق بعد 50 عامًا من الزواج.
لم تعد هذه القصة فردية، بل تحولت إلى ظاهرة اجتماعية متزايدة في إيران، باتت تُعرف بـ “الطلاق الرمادي”.. انفصال الأزواج بعد عقود طويلة من الحياة المشتركة، وغالبًا بعد تجاوز سن الستين.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة "شرق" الإيرانية، الاثنين، فإن معدلات الطلاق بين كبار السن في إيران تشهد ارتفاعًا غير مسبوق، وسط صمت رسمي وشعبي يلف هذه الظاهرة المتنامية.
وصفة التفكك البطيء
يرى خبراء اجتماعيون الأزمة لا تكمن فقط في تفكك العلاقة الزوجية، بل في تفكك الروابط الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تدعم هذه العلاقات.
وقال رئيس أمانة المجلس الوطني لكبار السن، الدكتور حسام الدين علامة: "نحو 61 في المئة من كبار السن في إيران يعيشون تحت خط الفقر النسبي، والضغوط الاقتصادية لا تفرغ الجيوب فقط، بل تُفرغ الأرواح من صبرها".
ويضيف أن كثيرًا من الأزواج المسنين يجدون أنفسهم، بعد التقاعد وانقطاع الدخل، في مواجهة نفقات متصاعدة للرعاية الصحية والمعيشة، دون دعم حقيقي.
وتشير الإحصاءات إلى أن 40 في المئة من المسنين في المدن الكبرى يعيشون مستأجرين، ما يزيد من هشاشة أوضاعهم المالية، ويخلق توترات داخل الأسرة، قد تنتهي أحيانًا بالطلاق.
شعور متنامٍ بالتجاهل
لا يتوقف الأمر على الفقر. فالشعور بالإهمال والتهميش أصبح جزءًا من يوميات المسنين في إيران. جواد حسيني، رئيس منظمة الرعاية الاجتماعية، حذّر في تصريحات سابقة أن "أكثر من نصف كبار السن في البلاد يشعرون بالإهمال"، مشيرًا إلى أن كثيرًا من النساء العجائز يعشن وحيدات، إما بسبب الطلاق أو وفاة الشريك أو عدم الزواج.
"كل يوم أمرّ أمام المرآة ولا أرى شيئًا.. فقط ثمة عجوز لا يتذكرها أحد"، تقول نرجس، أرملة تبلغ 68 عامًا، تعيش وحدها في شقة مستأجرة جنوب طهران، وتكمل: "زوجي توفي، أبنائي هاجروا، وصديقاتي انفصلن.. العزلة تحاصرني من كل جانب".
ووفقًا لبيانات مركز الإحصاء الإيراني، فإن عدد كبار السن في البلاد بلغ نحو 10.2 مليون شخص حتى عام 2025، ومن بين هؤلاء، يعيش 6.8 مليون شخص بمفردهم، فيما تُظهر الأرقام أن ما بين 3.2 و3.5 مليون امرأة مسنة يعشن بمفردهن، مقابل ما بين 500 إلى 600 ألف رجل.
وفي إحصائيات صادمة أخرى نشرتها هيئة الأحوال المدنية، فإن عدد المطلقين والمطلقات من كبار السن تجاوز في بعض السنوات 6 آلاف حالة سنويًا.
ففي عام 2016، كان هناك أكثر من 6800 رجل فوق سن الستين مطلقين، وفي عام 2018 تم تسجيل نحو 6300 رجل مسن و1950 امرأة مسنة أنهوا زواجهم رسميًا، وكان أكثر من 1600 من هذه الحالات بين طرفين تجاوزا الستين.
ومنذ عام 2021، توقفت السلطات عن نشر بيانات رسمية دقيقة حول هذه الظاهرة، ما يثير تساؤلات بشأن حجمها الحقيقي، والتجاهل المتعمد لنتائجها الاجتماعية.
ما بعد الطلاق.. الوحدة قدر
بينما ينظر المجتمع الإيراني تقليديًا إلى الزواج الطويل على أنه رمز للثبات والتضحية، فإن الطلاق في سن متقدمة يقلب هذه الصورة، ويُعيد طرح أسئلة مؤلمة عن معنى الحياة المشتركة، وأدوار الشريك، والاحتياجات التي تتبدل مع العمر.
"بعد الطلاق، عدت إلى نقطة الصفر، لكن هذه المرة بدون طاقة الشباب"، تقول فريبا، وتنظر إلى صورتها في يوم الزفاف: "كنا نعيش معًا، لكننا كنا وحدنا.. منذ سنوات".
يشدد باحثون اجتماعيون على ضرورة إعادة النظر في السياسات الاجتماعية والاقتصادية تجاه كبار السن في إيران، وتقديم دعم نفسي، وخدمات اجتماعية فعالة، وبرامج ترفيهية وتواصلية تكسر العزلة، وتعيد الأمل إلى من أنهكهم العمر والخذلان.
وفي ظل غياب هذا الدعم، تظل ظاهرة "الطلاق الرمادي" صرخة صامتة في وجه واقع اجتماعي يتغير، لكنه لا يصغي. واقع يقول فيه المسنون: "نحن لا نريد أن نُحبّ فقط.. نريد أن نُحترم، أن نُرى، أن نُفهم.. حتى في شيخوختنا".