رغم عقود من الإصلاح.. تقرير جديد يكشف عنصرية منهجية متجذرة داخل شرطة لندن
رغم عقود من الإصلاح.. تقرير جديد يكشف عنصرية منهجية متجذرة داخل شرطة لندن
بعد أكثر من عقدين على أول تقرير رسمي أدان العنصرية المؤسسية في شرطة العاصمة البريطانية، عادت القضية لتطفو مجددًا على سطح الجدل العام في بريطانيا، فقد كشفت دراسة جديدة نُشرت نتائجها يوم الجمعة عن استمرار ما وصفته بـ“الثقافة العنصرية المنهجية” داخل شرطة لندن، مؤكدة أن جذور هذه الممارسات تعود لعقود طويلة، وأنها ما زالت تؤثر على أداء الجهاز وعلاقته بالمجتمع الذي يُفترض أن يحميه.
وأعدت التقرير الخبيرة البريطانية في شؤون الموارد البشرية شيرين دانيلز، التي عملت على مدى عامين في تحليل بيئة العمل الداخلية في شرطة العاصمة ومراجعة آلاف الشكاوى والتقارير، وجاء التقرير، الذي حمل عنوان “ثلاثون نمطًا من الأذى”، في 126 صفحة تضمنت تحليلاً مفصلاً لسياسات التوظيف والترقية والتعامل اليومي مع أفراد الشرطة والجمهور، ليؤكد أن المشكلة ليست في سلوكيات فردية، بل في “هياكل مؤسسية” تنتج التحيز بشكل مستمر، بحسب وكالة فرانس برس.
تحذير من تداعيات على أداء الشرطة وثقة الجمهور
حذّرت دانيلز في مقدمة تقريرها من أن استمرار العنصرية داخل الشرطة يشكل خطرًا مباشرًا على انتظام العمل وكفاءة الأداء الأمني في العاصمة البريطانية، وأشارت إلى أن هذه الثقافة المترسخة تؤثر سلبًا على الروح المعنوية للضباط أنفسهم، وتضعف قدرتهم على أداء مهامهم بشفافية وعدالة، كما أنها تكرس فجوة متزايدة بين الشرطة والمجتمعات المحلية، خاصة تلك ذات الأصول الإفريقية والآسيوية.
وقالت دانيلز في بيان صحفي أُصدر بالتزامن مع نشر التقرير إن ما وثقته ليس مجرد روايات متفرقة، بل تشخيصاً لنظام كامل يخلق التمييز ويعيد إنتاجه بصورة دورية، وأوضحت أن الشرطة، باعتبارها مؤسسة تمثل سلطة الدولة، يجب أن تكون نموذجًا في المساواة والعدالة، لكنها تحولت في بعض جوانبها إلى “مرآة لتمييز اجتماعي متوارث لم تتم معالجته بعمق”.
رد فعل رسمي.. وإقرار بالتحدي
من جانبها، رحّبت شرطة العاصمة بنشر الدراسة وأكدت في بيان رسمي أنها تدرك خطورة ما ورد فيها، وقالت إنها تعمل حاليًا على تنفيذ حزمة من الإصلاحات الهيكلية تشمل التدريب الإلزامي على مكافحة التمييز وتحسين قنوات الشكاوى الداخلية وتوسيع برامج التوعية الثقافية داخل صفوفها.
وأشارت إلى أن إعادة بناء الثقة مع المواطنين تتطلب وقتًا وجهدًا وصراحة في مواجهة الأخطاء.
لكن مراقبين يرون أن هذه التصريحات لا تكفي لإقناع الرأي العام، خصوصًا في ظل تراكم الفضائح التي هزت سمعة الشرطة في السنوات الأخيرة.
فضائح متكررة وتآكل الثقة
شهدت بريطانيا خلال العقد الأخير سلسلة من الحوادث التي عمقت أزمة الثقة بين الشرطة والمجتمع، وأبرزها جريمة اختطاف الشابة سارة إيفرارد واغتصابها وقتلها في عام 2021 على يد أحد عناصر الشرطة، وهي الحادثة التي أثارت صدمة وطنية وأعادت النقاش حول ثقافة السلطة داخل المؤسسة الأمنية، كما نشرت هيئة الإذاعة البريطانية في الشهر الماضي تحقيقًا استقصائيًا تضمن لقطات مصوّرة سرًا داخل مركز شرطة في وسط لندن، أظهرت ضباطًا يطلقون تعليقات عنصرية ومهينة للنساء وللمهاجرين، ويبدون حماسًا لاستخدام القوة.
وقد أدت هذه الفضيحة إلى فصل خمسة ضباط، لكنها كشفت في الوقت نفسه عن مدى عمق المشكلة، إذ أظهرت أن سلوكيات التمييز لا تزال حاضرة في الحياة اليومية للمؤسسة رغم التعهدات الحكومية بالإصلاح.
إرث طويل من العنصرية المؤسسية
تُعد هذه الدراسة امتدادًا لسلسلة من التقارير التي تناولت علاقة الشرطة بالمجتمع منذ عقود، ففي عام 1999، خلص تقرير ماكفيرسون الشهير إلى أن شرطة العاصمة تعاني من عنصرية مؤسسية بعد مقتل المراهق الأسود ستيفن لورانس عام 1993 على يد مجموعة من المتطرفين البيض، وفشل الشرطة آنذاك في التعامل مع القضية بعدل، وقد أوصى التقرير حينها بإصلاحات شاملة في بنية الشرطة ونظامها التدريبي، إلا أن نتائج الدراسة الجديدة تشير إلى أن الكثير من تلك التوصيات لم تُنفذ بالشكل المطلوب.
وتقول دانيلز إن ما يثير القلق اليوم هو “استمرار أنماط التمييز ذاتها رغم مرور أكثر من عقدين على أول اعتراف رسمي بوجودها”، معتبرة أن المشكلة تتجاوز الأفراد لتصل إلى أسلوب القيادة وثقافة العمل الجماعي داخل المؤسسة.
عنصرية وتحيز وكراهية في الميدان
يستعرض التقرير حالات متعددة لضباط عانوا من تمييز مباشر بسبب لون بشرتهم أو انتمائهم الديني أو توجههم الجنسي، ويكشف أن بعض الضباط السود أو الآسيويين واجهوا عراقيل في الترقيات، وتعرض آخرون لتعليقات مهينة أو تنمر داخل أقسام الشرطة، كما وثق حالات رفضٍ ضمني لتلقي شكاوى التمييز من داخل الجهاز، ما جعل الكثيرين يترددون في الإبلاغ خوفًا من الانتقام الوظيفي.
وفي ما يتعلق بعلاقة الشرطة البريطانية بالمجتمع، أشار التقرير إلى أن الأقليات العرقية تشعر بأنها تخضع لمعاملة قاسية ومراقبة مفرطة، خاصة في عمليات التوقيف والتفتيش، حيث تُظهر الإحصاءات أن الأفراد السود أكثر عرضة بمرات عدة لأن يتم توقيفهم في الشارع مقارنة بالمواطنين البيض.
الإصلاح.. بين الطموح والواقع
يرى خبراء في شؤون الأمن أن إصلاح شرطة لندن يحتاج إلى ما هو أبعد من التدريب والبرامج الداخلية، إذ يتطلب إعادة نظر جذرية في نظام القيادة والمساءلة، ويؤكد هؤلاء أن أي إصلاح فعّال يجب أن يشمل إشراك المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان في مراقبة عمل الشرطة وتقييم أدائها.
وفي هذا السياق، حثت دانيلز الحكومة البريطانية على تبني “مقاربة شجاعة” تضمن شفافية أكبر في التعامل مع شكاوى التمييز، وتوفير حماية قانونية للضباط الذين يبلغون عن مخالفات داخلية، إضافة إلى إعادة تعريف مفهوم القيادة في الشرطة بما يضع قيم العدالة والتنوع في صميم عملية صنع القرار.
بين الوعي العام والإرادة السياسية
يعتقد محللون أن أحد أكبر التحديات أمام الإصلاح هو غياب الإرادة السياسية الكافية لتحمل تبعات التغيير الحقيقي، فالمؤسسة الشرطية في بريطانيا تُعد من أقدم المؤسسات وأكثرها نفوذًا، وأي محاولة لتغيير ثقافتها العميقة تواجه مقاومة من داخلها، ومع ذلك، يشير بعض النواب إلى أن تزايد الوعي المجتمعي بقضايا العدالة العرقية، خاصة بعد موجة الاحتجاجات التي أعقبت مقتل جورج فلويد في الولايات المتحدة عام 2020، جعل الحكومة البريطانية أكثر إدراكًا للحاجة إلى إصلاح جذري في سياساتها الأمنية.
تُعد شرطة العاصمة البريطانية لندن، المعروفة باسم "متروبوليتان بوليس"، أكبر جهاز شرطي في المملكة المتحدة ويضم أكثر من 40 ألف موظف، وتاريخيًا، لعبت دورًا محوريًا في ترسيخ مفهوم الأمن العام في البلاد منذ تأسيسها عام 1829، لكنها ظلت في الوقت ذاته موضوعًا لانتقادات حادة تتعلق بعلاقتها بالمجتمعات متعددة الأعراق في لندن.
منذ الثمانينيات، واجهت الشرطة اتهامات متكررة باستخدام القوة المفرطة ضد المواطنين السود والآسيويين، وبالتمييز في التوظيف والترقية، ورغم وعود الإصلاح المتكررة، لا تزال التقارير تشير إلى استمرار مشكلات التمييز البنيوي داخل الجهاز، وهو ما يجعل العلاقة بين الشرطة والجمهور إحدى أبرز القضايا الأخلاقية والسياسية في المجتمع البريطاني المعاصر.











