حين يقتل الخيال.. أزمة الألعاب الإلكترونية بين الإدمان والعنف واللامبالاة

حين يقتل الخيال.. أزمة الألعاب الإلكترونية بين الإدمان والعنف واللامبالاة
أحد الأطفال يلعب ألعاباً إلكترونية

 

ليلٌ خافتٌ في أحد أحياء مدينة القامشلي شمالي محافظة الحسكة السورية، مجموعة من الأطفال يتحلقون حول هواتفهم المحمولة، منغمسين في جولة من لعبة "ببجي"، لحظات توتر في اللعبة تتصاعد، قبل أن تخرج من الشاشة إلى الواقع، وخلال لحظات قليلة، يتحوّل الانفعال إلى شجار حقيقي ينتهي بجريمة قتل.

في واقعة مرعبة، وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير له، الثلاثاء، تفاصيل ما حدث منوهاً أن مراهقاً خنق زميله حتى الموت انتقامًا لخسارته داخل اللعبة، ليتحول النزاع الافتراضي إلى كارثة عائلية، تنتهي بإحراق منزل القاتل وفرار عائلات من الحي، خوفًا من انتقام مضاد.

هذه المأساة، التي بدأت بلعبة، لم تكن مجرد حادثة معزولة، بل ناقوس خطر عالمي يدق منذ سنوات، وسط تزايد التحذيرات من التأثيرات العميقة –والقاتلة أحيانًا– للألعاب الإلكترونية على النشء، في ظل غياب الضوابط، وقصور رقابي، واندفاع شركات التكنولوجيا نحو الأرباح على حساب الإنسان.

من الترفيه إلى الخطر.. كيف بدأت الأزمة؟

في بداياتها، قُدمت الألعاب الإلكترونية أداة للترفيه وتنمية الذكاء، وكان يُنظر إليها باعتبارها نقلة في عالم التقنية والتسلية. لكن خلال العقدين الأخيرين، ومع دخول ألعاب العنف والحروب إلى الهواتف الذكية، تغيّر كل شيء.

برزت ألعاب مثل "Call of Duty" و"Free Fire"، وبلغت "PUBG" (بلاير أنونز باتل غراوند) ذروة الانتشار، لتصبح أكثر من مجرد لعبة، فقد جمعت ملايين المستخدمين في منصات حية، تعتمد على القتل والتصويب والتكتيك، وتُكافئ اللاعبين كلما ازداد "مستوى القتل".

وبحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن ألعاب العنف باتت تسبب حالة من "الارتباط الإدماني"، وتزيد من مستويات السلوك العدواني، وتضعف حس التعاطف، وتؤثر في الصحة النفسية للمراهقين، وفي عام 2018، أدرجت المنظمة رسميًا "اضطراب الألعاب الإلكترونية" ضمن الاضطرابات العقلية والسلوكية.

إحصاءات مقلقة: الشباب في قبضة الإدمان

تشير دراسة صادرة عن جامعة أكسفورد عام 2023 إلى أن: أكثر من30% من الأطفال بين 12 و18 عامًا يقضون أكثر من 5 ساعات يوميًا في ألعاب إلكترونية، نحو 12% من هؤلاء يعانون أعراض الإدمان: قلق، توتر، عنف، وعزلة اجتماعية، وأكثر من 60% من ألعاب الفيديو الشائعة تتضمن محتوى عنيفًا.

في العالم العربي، أظهرت دراسة من مركز دراسات الخليج أن "ببجي" تحديدًا تُستخدم يوميًا من قِبل أكثر من 11 مليون مستخدم نشط.

وتحذر منظمات مثل "سايف ذا تشيلدرن" (Save The Children) واليونيسف أن الألعاب العنيفة باتت تُشكّل خطرًا على الصحة النفسية والبدنية للأطفال، وتؤدي إلى زيادة الانفعالات، تقلب المزاج، وتراجع الأداء الدراسي، في بيئة رقمية لا تخضع غالبًا لأي إشراف.

"ببجي" في قفص الاتهام

لعبة "ببجي" باتت رمزًا لهذه الأزمة المتفاقمة، ليس فقط بسبب شعبيتها الجارفة، بل لما خلفته من كوارث متكررة في بلدان عدة.

في الهند، أقدمت شابة على الانتحار بعدما منعتها أسرتها من اللعب، وفي العراق، حظرت السلطات اللعبة بعد وقوع عدة جرائم مرتبطة بها، وفي الأردن أصدرت هيئة الاتصالات تحذيرات متكررة بشأنها، وفي مصر، أثارت اللعبة جدلاً واسعًا بعد حوادث قتل وانتحار، دفعت البرلمان إلى المطالبة بوقفها.

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان دعا في تقرير خاص إلى "تطبيق رقابة صارمة على الألعاب الإلكترونية التي تحرض على العنف أو تقدم محتوى ضارًا نفسيًا وسلوكيًا للأطفال"، محذرًا من تفشي "العنف الرقمي" باعتباره مقدمة لعنف حقيقي.

ضعف الأسرة وغياب التشريعات

في حادثة القامشلي، لم يكن هناك أي إشراف أسري يُذكر.. أطفال في منتصف الليل، في الشارع، يلعبون "ببجي"، وسط غياب الأهل، وغياب المدرسة، وغياب القانون تكون النتيجة: طفل يموت، وآخر يتحول إلى قاتل، وأسر تُحرق منازلها.

الخبراء يحذرون من أن مسؤولية هذه الظاهرة لا تقع على اللعبة وحدها، بل على المجتمع كله: الأسرة، المدرسة، الإعلام، والمشرّع.

إذ لا تزال معظم الدول العربية تفتقر إلى قوانين فعالة تحكم محتوى الألعاب الإكترونية، أو تحدد السن القانوني، أو تراقب المنصات الرقمية.

وحتى في الدول التي تحظر بعض الألعاب، مثل العراق والهند، فإن التطبيق الفعلي لتلك القوانين يظل ضعيفًا، في ظل قدرة المستخدمين على التحايل عبر الشبكات الخاصة (VPN) أو تحميل الألعاب من مصادر خارجية.

أصوات تطالب بالحلول.. لا الحظر وحده

تقول منظمة "Mental Health Europe" إن الحل لا يكون في المنع القاطع، بل في تثقيف الأهل، وتوعية الأطفال، وتصميم ألعاب أكثر مسؤولية اجتماعيًا.

وفي دراسة أصدرتها جامعة هارفارد عام 2022، أوصى الباحثون بدمج التعليم بالترفيه، وتشجيع تطوير ألعاب تدعم التفكير النقدي، العمل الجماعي، وحل المشكلات، بدلاً من مجرد القتال والنجاة.

وفي المقابل، تطالب أصوات حقوقية أن تكون شركات الألعاب مسؤولة أخلاقيًا، وأن يُفرض عليها إدراج تحذيرات صحية، وآليات تحكم عمرية، وأدوات للحد من الاستخدام، كما هي الحال في صناعة التبغ والكحول.

كيف تغيرت الألعاب؟

في الثمانينيات، كانت الألعاب مثل "سوبر ماريو" و"تيترس" تحمل طابعًا بسيطًا وترفيهيًا، ومع تقدم التكنولوجيا، دخلنا عصر "الغيمرز"، حيث يتداخل الجرافيك الواقعي بالذكاء الاصطناعي، وتمتد اللعبة إلى بيئة اجتماعية حية.

اليوم، مع انتشار الإنترنت السريع وسهولة الوصول إلى الهواتف الذكية وضعف الرقابة، أصبحت الألعاب –خصوصًا العنيفة منها– متاحة بلا قيود، في كل بيت، وفي كل لحظة.

حادثة القامشلي ليست مجرد مأساة محلية، بل مرآة تعكس ما يمكن أن يحدث حين تُترك شاشات العالم الرقمي مفتوحة دون رقيب، في بيئات منهكة اقتصاديًا، مفككة اجتماعيًا، وأطفالها يربّون أنفسهم عبر "يوتيوب" و"ببجي".

العنف ليس فقط ما نراه على الشاشة، بل ما يُخزّن في الذاكرة والسلوك والعاطفة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية