خصوصية الأطفال في العصر الرقمي.. هل تتحول ألعابهم إلى تجارة بيانات؟

خصوصية الأطفال في العصر الرقمي.. هل تتحول ألعابهم إلى تجارة بيانات؟

تثار تساؤلات معقدة حول خصوصية البيانات وحق الأطفال في الحماية من الاستغلال الرقمي، حيث تُجمع كميات هائلة من البيانات الشخصية من هؤلاء المستخدمين الصغار من خلال نشاطاتهم اليومية على الشبكات الاجتماعية، ما يثير قضايا أخلاقية وقانونية حول ما إذا كانت هذه المنصات تنتهك حقوقهم في الخصوصية.

تشير الأرقام الحديثة إلى أن ثلث مستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم هم من الأطفال، ووفقًا لتقرير أصدرته اليونيسف في عام 2023، يستخدم حوالي 175,000 طفل الإنترنت لأول مرة يوميًا، ما يعني أن كل نصف ثانية يدخل طفل جديد إلى العالم الرقمي. 

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل تعكس التحول الكبير في نمط حياة الأطفال وكيفية تعاملهم مع المعلومات والتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن هذه الثورة الرقمية تحمل في طياتها تحديات ضخمة، خاصة عندما يتعلق الأمر بجمع البيانات الشخصية.

ومن المعلوم أن منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك، تعتمد بشكل رئيسي على جمع البيانات كجزء من نماذج أعمالها، وتعتمد هذه المنصات على خوارزميات متقدمة تقوم بتتبع نشاطات المستخدمين، بما في ذلك تفضيلاتهم، والتفاعل مع المحتوى، وحتى مدة البقاء على صفحات معينة. 

وفقًا لتقرير نشرته مؤسسة "Human Rights Watch" في عام 2024، يتم جمع بيانات الأطفال بنفس الطريقة التي تُجمع بها بيانات البالغين، دون أي اعتبار حقيقي للحماية الخاصة التي يحتاج إليها الأطفال بموجب القوانين الدولية.

إحدى القضايا الرئيسية التي تثير قلق الخبراء في مجال الخصوصية هو مدى فهم الأطفال لطبيعة البيانات التي يتم جمعها عنهم وكيفية استخدامها، الأطفال عادة لا يمتلكون القدرة الكاملة على فهم العواقب طويلة الأمد لمشاركة معلوماتهم الشخصية على الإنترنت. 

بينما تشير المنصات إلى أنها تقدم شروط الاستخدام وسياسات الخصوصية بشكل واضح، فإن هذه الوثائق غالبًا ما تكون معقدة للغاية حتى بالنسبة للكبار، ناهيك عن الأطفال الذين قد لا يتمكنون من استيعاب مفاهيم مثل "البيانات المجمعة" أو "التسويق المستهدف".

وعلى الرغم من أن القوانين واللوائح الدولية قد تطورت لتأمين حماية أكبر للأطفال في هذا المجال، فإن التحدي الأساسي يكمن في تطبيق هذه القوانين على أرض الواقع، فعلى سبيل المثال، في الاتحاد الأوروبي، يعد النظام العام لحماية البيانات (GDPR) واحدًا من أكثر الأطر القانونية تقدمًا في العالم لحماية الخصوصية. 

يفرض هذا النظام قيودًا صارمة على كيفية جمع البيانات الشخصية للأطفال، ويتطلب موافقة صريحة من الآباء والأوصياء في حالات معينة، ومع ذلك، حتى في ظل هذه اللوائح، تواجه المنصات صعوبة في الامتثال الكامل. فعلى الرغم من الجهود المبذولة لحماية خصوصية الأطفال، لا تزال هناك ثغرات كبيرة في التنفيذ والمراقبة.

في الولايات المتحدة، يحكم قانون حماية خصوصية الأطفال على الإنترنت (COPPA) عملية جمع البيانات الشخصية للأطفال دون سن 13 عامًا، هذا القانون يلزم الشركات بالحصول على موافقة الوالدين قبل جمع البيانات من الأطفال، ومع ذلك، تشير التقارير إلى أن العديد من المنصات تتجاهل هذه القوانين أو تجد طرقاً للتغلب عليها. 

تقرير نشرته منظمة "Common Sense Media" عام 2023 وجد أن ما يقرب من 60% من التطبيقات التي يُفترض أنها مخصصة للأطفال تنتهك هذا القانون بطريقة أو بأخرى، سواء من خلال جمع البيانات بدون موافقة الوالدين أو تقديم معلومات مضللة حول سياسات الخصوصية.

البيانات التي تجمعها منصات التواصل الاجتماعي عن الأطفال ليست مقتصرة على المعلومات الأساسية مثل العمر أو الاسم، بل تشمل تفاصيل دقيقة عن سلوكهم الرقمي، فمثلاً، تقوم الخوارزميات بتتبع الأنشطة اليومية للأطفال، مثل الألعاب التي يلعبونها، والأصدقاء الذين يتفاعلون معهم، والمحتوى الذي يفضلونه، وباستخدام هذه البيانات، يتم بناء ملفات تعريفية دقيقة لكل مستخدم، ما يمكن الشركات من استهدافهم بالإعلانات المخصصة بناءً على تفضيلاتهم الشخصية. 

ووفقًا لدراسة أجرتها شركة "Pixalate" عام 2024، فإن 81% من تطبيقات الأطفال تحتوي على أدوات تعقب بيانات طرف ثالث، ما يعني أن بيانات الأطفال تُباع لشركات أخرى لأغراض تسويقية.

أحد أخطر الجوانب المتعلقة بجمع بيانات الأطفال هو كيفية استغلالها تجاريًا، الشركات التي تعتمد على الإعلانات تستخدم هذه البيانات للتلاعب بتفضيلات الأطفال، ما يزيد من احتمالية تعرضهم للإعلانات الموجهة والمحتويات غير المناسبة. 

وفقًا لدراسة من جامعة ستانفورد في 2023، تعرض الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 عامًا لما يقرب من 120 إعلانًا مستهدفًا يوميًا، بما في ذلك الإعلانات التي تحتوي على مواد قد تؤثر على صحتهم النفسية والجسدية، مثل الترويج للأنظمة الغذائية غير الصحية أو الألعاب العنيفة.

ولا تقتصر التحديات على استخدام البيانات لأغراض تسويقية فقط، بل تمتد إلى جوانب أعمق مثل التزييف العميق (Deepfake) والتنمر الإلكتروني، فاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد صور أو مقاطع فيديو وهمية للأطفال أصبح أمرًا شائعًا، الأطفال قد يكونون غير قادرين على التمييز بين الحقيقة والخيال في هذه الحالات، ما يعرضهم لمخاطر كبيرة تتعلق بالسمعة والأمان الشخصي.

وفي دراسة نشرتها جامعة "MIT" في عام 2023، تم الكشف عن زيادة ملحوظة في استخدام تقنيات التزييف العميق لاستهداف الأطفال، حيث أظهرت البيانات أن 15% من الأطفال تعرضوا لتجارب ذات صلة بالتزييف العميق خلال العام الماضي.

التنمر الإلكتروني

وإلى جانب ذلك، يشكل التنمر الإلكتروني مشكلة أخرى ذات صلة بجمع البيانات، وتقوم منصات التواصل الاجتماعي بتوفير ساحة مفتوحة للتفاعل بين الأطفال وأقرانهم، إلا أن هذا التفاعل قد يتحول أحيانًا إلى اعتداءات لفظية أو نفسية. 

ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) في 2023، أفاد 20% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و17 عامًا بأنهم تعرضوا لنوع من أنواع التنمر الإلكتروني، هذا النوع من التنمر قد يستخدم المعلومات الشخصية التي تم جمعها عن الطفل، ما يزيد من تأثيره السلبي.

ويرى مراقبون أنه لمواجهة هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى إصلاحات شاملة في سياسات جمع البيانات على منصات التواصل الاجتماعي، ينبغي أن تلعب الحكومات دورًا أكثر فاعلية في فرض القوانين التي تحمي الأطفال من استغلال بياناتهم، فيجب أن تُشدد العقوبات على الشركات التي تنتهك قوانين حماية الخصوصية، وأن يتم تطبيق أنظمة مراقبة صارمة لضمان الامتثال، كما يجب على الآباء والمجتمعات المدرسية أن يشاركوا في توعية الأطفال حول أهمية حماية بياناتهم الشخصية على الإنترنت.

وعلى الرغم من أن المنصات الاجتماعية الكبرى قد اتخذت خطوات لتحسين سياسات الخصوصية، فإن تأثير تلك الخطوات يبقى محدودًا. فيسبوك، على سبيل المثال، أطلق مؤخرًا أدوات جديدة للتحكم في خصوصية المستخدمين الأطفال، إلا أن العديد من النقاد يشيرون إلى أن هذه الأدوات لا تعالج المشكلة الأساسية المتعلقة بجمع البيانات.

كما أن إعلانات الشركات الكبرى عن تحسينات في أنظمة الأمان غالبًا ما تكون استجابة لضغوط الرأي العام أو لتفادي العقوبات القانونية.

من جهة أخرى، يبرز دور التعليم الإعلامي كعنصر أساسي في حماية الأطفال من المخاطر المرتبطة بجمع البيانات، فتعليم الأطفال منذ سن مبكرة كيفية التعامل مع الإنترنت بشكل آمن، وفهم حقوقهم الرقمية، وكيفية حماية خصوصيتهم على المنصات المختلفة. 

وفقًا لتقرير صادر عن "اليونيسكو" في عام 2024، يُعد تعزيز الدراية الإعلامية من أهم الاستراتيجيات التي يمكن أن تحد من تأثير منصات التواصل الاجتماعي على خصوصية الأطفال.

مسألة عالمية

ويشدد حقوقيون على ضرورة النظر إلى قضية جمع البيانات وخصوصية الأطفال على أنها مسألة عالمية تتطلب استجابة منسقة بين الحكومات، والشركات، والمجتمع المدني، الأطفال هم أكثر الفئات هشاشة في العالم الرقمي، ويتحمل المجتمع الدولي مسؤولية حمايتهم من المخاطر التي قد يتعرضون لها جراء الاستغلال الرقمي.

انتهاك خصوصية الأطفال

وقال خبير حقوق الإنسان البحريني، حسين أبو خماس، إن حقوق الأطفال اليوم تتعرض لانتهاكات غير مسبوقة، خاصة في ما يتعلق بالخصوصية وحمايتهم من الاستغلال. تستخدم هذه المنصات تقنيات متقدمة لجمع البيانات الشخصية للأطفال واستغلالها لأغراض تجارية بحتة، وهو أمر يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، وخصوصًا الحق في الخصوصية والحماية من الاستغلال، والذي يكفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية حقوق الطفل.

وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على حق الأفراد في الخصوصية وحمايتهم من التدخل في حياتهم الشخصية أو استغلال بياناتهم، بالنسبة للأطفال، الذين يُعتبرون فئة هشة، فإن هذه الحماية يجب أن تكون أكثر صرامة، جمع البيانات الشخصية بشكل تلقائي من خلال الخوارزميات وتحليل سلوك الأطفال على الإنترنت يعد انتهاكًا صارخًا لهذا الحق، حيث يتم استخدام بياناتهم دون موافقة واضحة أو فهم كامل من قبلهم أو من قبل أولياء أمورهم.

وأكد أن القوانين الدولية، لا سيما اتفاقية حقوق الطفل، تؤكد حماية الأطفال من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي. المادة 32 من الاتفاقية تلزم الدول بحماية الأطفال من الأنشطة التي قد تعيق نموهم الجسدي أو النفسي، وهو ما يحدث عندما يتم استغلال بياناتهم على منصات التواصل الاجتماعي لأغراض تجارية، الشركات التقنية تستخدم هذه البيانات لتوجيه إعلانات مستهدفة للأطفال، ما يساهم في تحويلهم إلى أدوات تسويق رقمية.

وذكر الخبير الدولي، أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يبرز أهمية حماية الأطفال من الأذى الجسدي والنفسي، ومع ذلك، فإن البيانات التي يتم جمعها تُستخدم أحيانًا لتقديم محتوى يُلحق الضرر بصحة الأطفال العقلية، مثل ترويج معايير الجمال غير الواقعية أو المحتويات التي تؤثر سلبًا على صورتهم الذاتية، هذه الانتهاكات تؤدي إلى تزايد معدلات الاكتئاب والقلق بين الأطفال، خاصة في مرحلة المراهقة، التنمر الإلكتروني، والذي يُعد نتيجة أخرى لجمع البيانات غير المنظم، يعرض الأطفال لخطر إضافي يتم استغلال المعلومات التي تجمعها المنصات لاستهدافهم، ما يؤدي إلى تفاقم مشاكلهم النفسية والاجتماعية. وفقًا لتقرير اليونسكو لعام 2024، فإن نسبة كبيرة من الأطفال يتعرضون للتنمر الإلكتروني، ما يفاقم التحديات النفسية التي يواجهونها.

واسترسل، من غير المقبول تبرير هذه الانتهاكات تحت مظلة التحسينات التكنولوجية، حقوق الأطفال، خاصة في ما يتعلق بالخصوصية والحماية من الاستغلال، هي حقوق أساسية غير قابلة للمساومة وعلى الحكومات والجهات التنظيمية اتخاذ تدابير أكثر صرامة لضمان حماية هذه الحقوق في البيئة الرقمية.

وأتم، يمكن القول إن جمع البيانات واستغلال الأطفال تجاريًا يمثل تهديدًا جديًا لحقوقهم الأساسية، يجب على المجتمع الدولي تكثيف جهوده لوضع إطار قانوني وتنظيمي صارم لحماية الأطفال في العالم الرقمي، وضمان أن تكون حقوقهم فوق أي اعتبارات تجارية أو تقنية.

تحديات وحلول تقنية

وقال الخبير التقني، المهندس محمد الكومي، تبرز قضية جمع البيانات وانتهاك خصوصية الأطفال في الفضاء الرقمي كمسألة حساسة تستحق اهتمامًا جادًا، تعتمد الشركات التقنية على تجميع كميات هائلة من المعلومات الشخصية، بما في ذلك بيانات الأطفال، لاستخدامها في تحسين تجارب المستخدمين واستهداف الإعلانات، ومع ذلك، فإن هذا النشاط ينطوي على مخاطر جسيمة تتعلق بخصوصية الأطفال وسلامتهم وسلامهم.

وتابع الكومي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، تُعتبر خوارزميات التعلم الآلي أساس عمل منصات التواصل الاجتماعي، حيث تستخدم هذه الخوارزميات تحليل البيانات لفهم سلوك المستخدمين وتقديم محتوى مخصص، ويُعد الأطفال أكثر عرضة للوقوع ضحية لهذه الممارسات نظرًا لعدم إدراكهم الكامل لمخاطر استغلال بياناتهم، يتفاقم الوضع بسبب التطورات السريعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يسهل على الشركات استغلال الفجوة القانونية في حماية الخصوصية، وتُظهر المشكلة أيضًا تزايد القلق بشأن جمع البيانات البيومترية والمعلومات الشخصية دون الحصول على موافقة صريحة من الأهل، فالأطفال ليسوا فقط غير مدركين للمخاطر المرتبطة بالخصوصية، بل إن الخوارزميات تعمل بطريقة تجعلهم عرضة لمحتوى غير مناسب وإعلانات موجهة تستهدفهم بطريقة قد تؤثر سلبًا على تطلعاتهم.

وأكد الكومي، على الرغم من وجود تقنيات مثل "الخصوصية التفاضلية"، التي تضيف ضوضاء إلى البيانات المجمعة لحماية الخصوصية، فإن هذه الحلول لم تُعتمد بشكل كافٍ في الصناعات الرقمية، هناك حاجة ماسة لتطوير تدابير أكثر صرامة لحماية بيانات الأطفال، من خلال تطبيق تقنيات تشفير متقدمة، تقنيات التشفير ذات المفاتيح العامة يمكن أن تمنع الوصول غير المصرح به إلى المعلومات الشخصية، ولكن استخدامها لا يزال محدودًا.

واسترسل، يتطلب الأمر تنظيمًا قانونيًا فعّالًا يضمن الامتثال لمعايير حماية بيانات الأطفال، ينبغي للحكومات والجهات التنظيمية العمل معًا لتطوير أطر عمل صارمة، تشمل إنشاء أنظمة مراقبة فعالة لتتبع انتهاكات الخصوصية في الوقت الحقيقي، يجب أن تتضمن هذه الأطر عقوبات صارمة ضد المنصات التي لا تلتزم بحماية بيانات الأطفال.

وأتم، بينما يتزايد اعتمادنا على التكنولوجيا، يجب علينا اتخاذ خطوات ملموسة لحماية الأطفال من المخاطر المرتبطة بخصوصيتهم. تتطلب هذه الجهود تكاملًا بين الحلول التقنية والتشريعات القوية لضمان حقوق الأطفال في العالم الرقمي، بما يتيح لهم التفاعل بأمان مع التكنولوجيا دون القلق بشأن استغلال بياناتهم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية