ندرة الماء.. أزمة صامتة تخنق شمال وشرق سوريا وتثقل كاهل النساء
ندرة الماء.. أزمة صامتة تخنق شمال وشرق سوريا وتثقل كاهل النساء
في أزقة تل تمر وقرى إقليم شمال وشرق سوريا، صار صوت دلو الماء وهو يُسحب من بئر يدوّي كجرس إنذار يومي، خمس سنوات من العطش القسري، وأربعة فصول من المعاناة التي لا تنتهي، جعلت الحصول على كوب ماء نظيف مهمة شبه مستحيلة.
هنا، حيث يعيش أكثر من خمسة ملايين إنسان، تحولت المياه من حق أساسي إلى ورقة ضغط سياسي، ومن شريان حياة إلى سبب مباشر للمرض والخوف، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الثلاثاء.
تتهم الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، الدولةَ التركية باستخدام المياه سلاحاً سياسيّاً، خاصة عبر السيطرة على محطة علوك بريف رأس العين/سري كانيه، التي كانت تضخ الماء لأكثر من 5 ملايين نسمة.
منذ انقطاعها المتكرر جفت أنهار بكاملها مثل الخابور وزركان، وانخفض منسوب الفرات إلى مستويات غير مسبوقة، لتبدأ معركة يومية من أجل البقاء، ضحاياها الأوائل النساء والفتيات.
نساء يواجهن العطش
تقول يسرى الخطبان، من دائرة المياه في تل تمر، وهي تراقب شاحنة صهريج تفرغ حمولتها في خزان متهالك: "95% من تأثير أزمة المياه يقع على النساء. نحن من نحمل الدلاء، ونسهر على نظافة الماء، ونتأكد أن أطفالنا لا يشربون ماءً ملوثًا، والسيطرة التركية على مدينتي رأس العين وتل أبيض فاقم الوضع، ومع سيطرته على محطة علوك، وجدنا أنفسنا أمام كارثة إنسانية حقيقية".
بلدية الشعب، وفق ما توضحه يسرى، توفر الماء لـ 14 ألف أسرة عبر خمسة آبار رئيسية، لكن هذه الحلول لا تتجاوز كونها إسعافات أولية لأزمة مزمنة.
وفي ظل الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، حتى المياه الجوفية باتت تتناقص، مهددةً المنطقة بأزمة أكثر حدة في المستقبل القريب.
الماء والمرأة.. معاناة مضاعفة
بالنسبة لفادية العوض، الناشطة في قضايا المرأة، فإن شحّ المياه ليس مجرد مشكلة خدمية: "الأزمة لها أثر نفسي واجتماعي عميق، النساء يقطعن مسافات طويلة لجلب الماء، ما يعرضهن للإرهاق الجسدي والمضايقات، ويؤدي أحيانًا إلى انقطاعهن عن العمل أو الدراسة، كما أن الضغط النفسي الناتج عن هذه المسؤولية أدى إلى زيادة القلق والاكتئاب والعنف القائم على النوع الاجتماعي".
فادية ترى أن الحل يكمن في تعاون المنظمات الإنسانية مع المؤسسات المحلية لتقريب مصادر المياه من المنازل، وحماية حق المرأة في الحصول على الماء باعتباره جزءاً من أمنها الإنساني.
الأزمة لم تقف عند حدود العطش، بل تجاوزتها إلى انتشار الأمراض. نالين يونس، العاملة في قسم التوعية الصحية وعضوة الهلال الأحمر الكردي، تحذر من المخاطر الصحية للمياه الملوثة: "الأمراض التي نرصدها تتراوح بين التهابات المجاري البولية، الفطريات، الأمراض الجلدية، وصولاً إلى تشوهات الأجنة وحالات العقم. النساء الحوامل أكثر عرضة، والأطفال يدفعون الثمن الأكبر".
الهجمات العسكرية، بحسب نالين، أسهمت في تسرب مواد كيميائية ومخلفات حرب إلى المياه الجوفية، ما جعل حتى الآبار الجديدة مصدر خطر. ومع صدأ الشبكات القديمة وتراكم الجير، صار الحصول على ماء صالح للشرب معركة بحد ذاته.
أزمة تتجاوز الحدود
هذه المعاناة اليومية ليست مجرد مشكلة محلية، بل جزء من أزمة إقليمية واسعة، إذ تؤكد تقارير منظمات دولية أن تغيّر المناخ، وسياسات حجز المياه، والصراعات المسلحة، كلها عوامل تجعل مناطق النزاع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر البقع عطشًا في العالم.
في تل تمر، تُغلق يسرى الخطبان دفتر ملاحظاتها وتتنهد: "الماء حياة، لكننا اليوم نحارب من أجل حقنا في الحياة، إذا لم تتحرك الأمم المتحدة والدول المؤثرة لحل مشكلة محطة علوك، فإننا سنجد أنفسنا أمام كارثة إنسانية لا يمكن احتواؤها".
وفي شمال وشرق سوريا، العطش لم يعد مجرد إحساس في الحلق، بل صار وجعًا يسكن كل بيت، يهدد كل امرأة، ويكتب فصولًا جديدة من معاناة صامتة، لا يسمعها إلا من يفتح أذنه لصرير الدلو في قاع بئر شبه جاف.











