بين هواجس الأمن وحدود التعبير.. واشنطن تنتقد تراجع الحريات في أوروبا
بين هواجس الأمن وحدود التعبير.. واشنطن تنتقد تراجع الحريات في أوروبا
أعادت واشنطن فتح ملف حقوق الإنسان في أوروبا بلغة نقدية غير معهودة تجاه الحلفاء، معربة عن الأسف لما وصفته بتدهور الحريات الأساسية وفي مقدمتها حرية التعبير، جاء ذلك في التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية الذي نُشر هذا الأسبوع بصيغة مختصرة ومُعاد هيكلتها، وبتشديد واضح على القيود المرتبطة بالمحتوى الرقمي ومناخ الاحتجاجات في عواصم أوروبية كبرى.
أثار التقرير ردود فعل متباينة بين العواصم الأوروبية والمنظمات الحقوقية، وطرح أسئلة صعبة عن الخط الفاصل بين حماية المجتمع من خطاب الكراهية والمعلومات المضللة وبين صون الحق في التعبير والاحتجاج، كما غذّى اتهامات بالمكيالين في انتقاد الانتهاكات عبر العالم وبتحويل ملف الحقوق إلى أداة في السجال الجيوسياسي.
يشير التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية إلى تدهور سجل الحريات في دول أوروبية من بينها ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا، مع لفت خاص إلى القيود على التعبير والجدل حول التشريعات الرقمية، ويلاحظ مراقبون أن النسخة الأخيرة جاءت أقصر وأقل تفصيلاً من تقارير سابقة، مع تخفيف حدة الانتقادات لبعض شركاء الإدارة الحالية وتشديدها على ساحات أخرى، ما دفع حكومات كحكومة جنوب أفريقيا إلى رفض ما ورد ونعته بالتقرير المعيب.
وصعدت واشنطن لهجتها تجاه البرازيل عبر عقوبات على قاضٍ في المحكمة العليا بدعوى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان مرتبطة بتقييد المحتوى الرقمي، في المقابل، تباهت الإدارة بأنها ستجري نقاشات صريحة مع الحلفاء حول الرقابة والحدّ من أصوات سياسية أو دينية، هذه الخطوط العريضة انعكست أيضا على الخطاب السياسي الأمريكي، إذ عبّر نائب الرئيس جاي دي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن عن قلق من تراجع حرية التعبير داخل أوروبا نفسها.
تشريعات رقمية مثيرة للجدل
في المملكة المتحدة، تقف حرية التعبير على تماس مباشر مع قانون الأمان على الإنترنت الذي دخل حيّز التنفيذ ويمنح الجهات المنظمة سلطات واسعة لإلزام الشركات بإزالة محتوى غير قانوني واتخاذ تدابير وقائية، مع انتقادات حادة من منظمات رقمية ترى أنه يهدد التشفير ويخلق بيئة رقابية قد تمتد إلى الخطاب المشروع.
وفي أروقة الاتحاد الأوروبي يعود النقاش تحت مسمى مراقبة الدردشات الخاصة لمكافحة الاعتداء الجنسي على الأطفال، وهي مقترحات تعترض عليها جماعات حقوقية باعتبارها تُضعف الخصوصية وتفتح الباب أمام مساس واسع بالحريات الرقمية.
الاحتجاج والفضاء العام
تحت ضغط الحرب في غزة وتداعياتها داخل أوروبا، اتُّخذت إجراءات مشددة في بعض الدول لتنظيم التظاهرات وفرض قيود على شعارات ولغات بعينها، ما دفع مفوض حقوق الإنسان في مجلس أوروبا إلى مراسلة الحكومة الألمانية محذراً من قيود غير متناسبة على حرية التعبير والتجمع السلمي، بينما رصدت منظمات حالات استخدام مفرط للقوة بحق محتجين بينهم قُصّر، هذه الصورة تعززها تقارير حقوقية تتحدث عن نمط أوسع من تجريم الاحتجاج السلمي وتضييق المساحات المدنية وفق منظمة العفو الدولية.
تدل بيانات الوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية على موجة قلق متصاعدة داخل المجتمعات اليهودية في أوروبا، إذ أفاد ثمانية من كل عشرة مشاركين في استطلاع حديث بأن معاداة السامية ازدادت خلال الأعوام الخمسة السابقة على الاستطلاع، في حين أبلغت نسب عالية عن تجارب شخصية مع كراهية اليهود في الفضاءين العام والرقمي.
وفي موازاة ذلك يسجل مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان في منظمة الأمن والتعاون بأوروبا فجوات مزمنة في رصد جرائم الكراهية وملاحقتها، على الرغم من تحسن أنظمة التوثيق في عدد من الدول، وتظهر بياناته أن 48 دولة قدمت معلومات محدثة لآخر تقرير سنوي، مع تباين كبير في تفصيل البيانات ونوعيتها، وسجلت ألمانيا مثلا أكثر من سبعة عشر ألف جريمة كراهية في عام واحد مع حاجة إلى تحسين بيانات الادعاء والأحكام، وتعطي هذه الأرقام خلفية مهمة لمعادلة شديدة الحساسية بين مكافحة خطاب الكراهية وصيانة التعبير، وفق وكالة حقوق الإنسان الأوروبية
ردود الفعل الحقوقية
تقول منظمة العفو الدولية إن أوروبا تشهد نمطاً مقلقاً من القيود التي تقوض الحق في الاحتجاج السلمي، من تشريعات فضفاضة لمكافحة التطرف إلى تدابير الشرطة في الشارع، وتؤكد أن السماح بالمساحة المدنية شرط لصحة الديمقراطية، وتذهب هيومن رايتس ووتش في الاتجاه نفسه محذّرة من أزمة حرية الإعلام في مناطق بعينها مثل اليونان، بما يؤثر في قدرة المواطنين على الاطلاع والمساءلة.
أما منظمة الأمن والتعاون في أوروبا فتشدد عبر ممثلتها لحرية الإعلام على أن أمن القارة لا يتحقق دون صحافة حرة، داعية إلى إنهاء المضايقات ومحاسبة المعتدين على الصحفيين، وهذه المواقف تمنح التقرير الأمريكي مادة مقارنة لكنها تذكّر أيضاً بأن تقييم الحريات ينبغي أن يستند إلى معايير متسقة وقابلة للقياس.
وينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن القيود على حرية الرأي والتعبير يجب أن تكون منصوصاً عليها في القانون وضرورية ومتناسبة لحماية حقوق الآخرين أو الأمن القومي أو النظام العام، ويؤكد النظام الأوروبي لحقوق الإنسان في المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية المبادئ ذاتها مع رقابة قضائية من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على اختبار الضرورة والتناسب.
وهذه النصوص لا تعطي حصانة مطلقة لأي خطاب، لكنها تضع سقفاً صارماً على ما يمكن للدولة أن تقيد به المجال العام، وتُلزمها بتسبيب واضح وقابل للمراجعة القضائية، وفي ضوء ذلك يصبح النقاش الأوروبي حول التشفير الشامل أو صلاحيات المنصات وشرطة المحتوى اختباراً قانونياً بامتياز لا مجرد سجال سياسي بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
مكافحة الكراهية وحماية الخطاب
تواجه الحكومات الأوروبية واقعاً مركباً تجمع فيه بين ارتفاع جرائم الكراهية ومعاداة السامية، وتزايد التحريض الرقمي، وحاجة مجتمعاتها إلى الحماية، وبين ضرورة عدم تجريم الخطاب المشروع أو ترهيب المحتجين أو كسر التشفير الذي يحمي الخصوصية والنشطاء والصحفيين.
وهذا التوازن الدقيق يصطدم بميول تشريعية إلى الحلول الشاملة التي قد تمتد آثارها إلى ما وراء الهدف المقصود، كما في مقترحات المسح الإجباري للرسائل الخاصة أو نظم التحقق العمري الصارمة، وتؤكد منظمات تقنية وحقوقية أن أي سياسة عامة تُهمِش معايير الضرورة والتناسب ستنتهي غالباً إلى تقييد أوسع مما ينبغي، وتخلق أثراً مُجمِّداً على الابتكار والبحث والمساءلة الصحفية.
تسائل العواصم الأوروبية النبرة الأمريكية الجديدة معتبرة أن تقرير الخارجية صار أقل توازناً وأكثر تحيزاً للسياقات السياسية الراهنة، في حين يشير المنتقدون في الضفة الأخرى إلى أن أوروبا تُخضع حرية التعبير لتقاليد قانونية تقبل القيود الأوسع مقارنة بالتعديل الأول في الدستور الأمريكي، ويضاعف هذا التباين من حساسية الحوار عبر الأطلسي حول الديمقراطية الليبرالية في عصر المنصات العملاقة والذكاء الاصطناعي، ويجعل من تقارير الحقوق وثائق متنازع عليها أكثر من كونها أدوات فنية باردة، ومع ذلك يظل المخرج العملي واحداً، وهو محاسبة السياسات الأوروبية والأمريكية على قاعدة المعايير ذاتها ومراجعتها قضائيا وحقوقيا بلا انتقائية.
يقدم التقرير الأمريكي، على ما فيه من اختصار وإثارة جدل، فرصة لمراجعة أوروبية صريحة لمنظومة الحريات في سياق أزمات أمنية واجتماعية متلاحقة، لذا فالمطلوب في لندن وبرلين وباريس ليس التراجع عن حماية الأطفال أو مكافحة الكراهية، بل تقييد أدوات التنفيذ بما يحقق الأهداف من غير أن يطيح بحرية التعبير والتجمع والخصوصية الرقمية، ومع توالي شهادات المنظمات الحقوقية وتدفق بيانات الهيئات الأممية والإقليمية، تتأكد الحاجة إلى مساءلة شفافة وإلى سياسات قائمة على الأدلة لا الانطباعات، ومن دون ذلك ستتسع فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع، وستتكرر على نحو دوري دورات التشدد ثم الارتداد عنه تحت ضغط القضاء والرأي العام.
تعود تقارير وزارة الخارجية الأمريكية عن أوضاع حقوق الإنسان إلى تفويض من الكونغرس وتُنشر سنوياً لتقييم السجلات الوطنية عبر العالم، وفي أوروبا تُحكم حرية التعبير والتجمع بمنظومة متعددة المستويات تبدأ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتستند إقليمياً إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والميثاق الأوروبي للحقوق الأساسية، وتاريخياً يميل القضاء الأوروبي إلى قبول قيود أوسع نسبياً على الخطاب مقارنة بالنهج الأمريكي، مع إخضاع تلك القيود لاختبار صارم للضرورة والتناسب.
في بريطانيا تطور قانون الأمان على الإنترنت منذ مشروع قانون عام 2022 وصولا إلى قانون 2023، في حين دفع تصاعد جرائم الكراهية والتحريض الرقمي الاتحاد الأوروبي إلى مقترحات متكررة لتنظيم المنصات والرسائل الخاصة، وقد صعدت الحروب والنزاعات، وعلى رأسها حرب غزة، التوترات داخل المجتمعات الأوروبية وأعادت تعريف العلاقة بين الأمن والحرية، في حين تواصل المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية الضغط لضمان أن تظل حماية الكرامة الإنسانية والخصوصية وحرية الصحافة والاحتجاج هي البوصلة التي تحتكم إليها التشريعات والسياسات العامة بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان.