بين الأمن والكرامة الإنسانية.. حملة تطهير واشنطن من المشردين تشعل معركة حقوقية
بين الأمن والكرامة الإنسانية.. حملة تطهير واشنطن من المشردين تشعل معركة حقوقية
تتحول واشنطن العاصمة إلى ساحة اختبار قاسٍ لسياسات التعامل مع التشرد، بعد أن أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حملة لإزالة مخيمات أشخاص بلا مأوى من الحدائق والمساحات العامة، ملوحاً بإمكانية فرض الغرامات والسجن على من يرفضون الامتثال، ومعلناً نشر قوات الحرس الوطني وتوسيع الدور الفيدرالي في إنفاذ الخطة.
أثارت الإجراءات حزمة واسعة من التحذيرات من منظمات محلية ودولية تعتبر أن “تطهير” المشهد العام لا يعالج جذور الأزمة، بل ينقلها قسراً إلى الظل، ويقوّض حقوق الإنسان الأساسية للمشردين، في المقابل، تبرر الإدارة التحرك باعتبارات النظام العام والسلامة وفق رويترز.
تسوق الإدارة خطاباً يعد المخيمات مصدراً للفوضى والجريمة، وتَعِدُ بأن من يُزالون من الحدائق “لديهم أماكن كثيرة يمكن الذهاب إليها”. لكنّ منتقدين يشيرون إلى غياب تفصيلات شفافة حول القدرة الاستيعابية الفعلية للملاجئ والخدمات، وإلى أن المقاربة الأمنية قد تفصل الناس عن أطبائهم، وحالاتهم العلاجية، وشبكات دعمهم الاجتماعية، بما يفتح دائرة تهميش جديدة.
كما أن تصوير الأزمة بوصفها مشكلة نظام عام يصطدم بأرقام رسمية تفيد بأن العنف في العاصمة شهد هبوطاً ملحوظاً أخيراً، في حين تراجعت الجريمة مقارنة بذروة عام 2023، وهو ما يضعف صلة الحملة بادعاءات “الانفلات” ويجعلها أقرب إلى سياسة رمزية عالية الكلفة اجتماعياً.
ردود فعل حقوقية
قوبلت الخطة بإدانات وتحذيرات من طيف واسع من المنظمات منها الائتلاف الوطني للمشردين ومنظمات حقوقية في واشنطن والتي حذرت من أن الترحيل القسري للمشردين يقطع سبل الوصول إلى الرعاية والدعم، ويضاعف المخاطر على الفئات الأكثر هشاشة.
كما انتقدت المنظمة الوطنية لإنهاء التشرد إسنادَ الحلول إلى أدوات التجريم والسَوق القسري، ودعت إلى تمويل الإسكان الميسور والدعم الدائم، معتبرة أن السياسات العقابية لا تُقلّل التشرد بل تُرحّله وتزيد كلفته على أنظمة العدالة والصحة.
وذهبت “مينتال هيلث أمريكا” أبعد من ذلك بربط خطاب النظام العام بخفض التمويل الصحي والاجتماعي، محذرة من مضاعفة الفوارق وتقويض فرص التعافي.
وتتلاقى هذه المقاربات مع مرافعات نقابات المحامين وخبراء الحقوق المدنية بأن التجريم يفاقم الفقر ولا يعالجه، ويستهلك موارد الشرطة والمحاكم دون أثر مستدام على أعداد بلا مأوى وفق "American Bar Association".
المعايير الأممية والقانون الدولي
على المستوى الأممي، يندرج حق السكن الملائم ضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي وقعت عليه الولايات المتحدة دون أن تصادق عليه، في حين تظل ملتزمة بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يحمي الكرامة والخصوصية ويقي من المعاملة القاسية والمهينة.
في هذا الإطار، دعا المقرر الخاص المعني بالسكن والخبير الأمميون إلى وقف تجريم الفقر والتشرد، والتراجع عن سياسات “كنس” المخيمات من دون بدائل سكنية ملائمة، ووصفوا العقوبات على أنشطة بقاء أساسية كال نوم في العراء بأنها غير إنسانية وتتعارض مع التزامات حقوق الإنسان، وتذهب دراسات أممية حديثة إلى أن التجريم يعمّق الهشاشة ويضاعف التكاليف العامة مقارنة بنهج “الإسكان أولاً” القائم على توفير سكن دائم ودعم مرافِق. المفوضية السامية لحقوق الإنسان
تأتي الحملة في ذروة موجة وطنية غير مسبوقة: فبحسب التقرير السنوي لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية لعام 2024، بلغ عدد من يعيشون التشرد في ليلة واحدة أكثر من 771 ألف شخص، بزيادة قياسية تقارب 18 في المئة عن العام السابق، مع ارتفاع واضح في أعداد الأسر والأطفال، واتساع في أنماط التشرد المزمن.
وتجعل هذه الخلفية الرقمية أي سياسة “إزالة فورية” أقرب إلى نقل المشكلة بين الجيوب الجغرافية لا إلى حلها، أما في واشنطن العاصمة، فتعكس بيانات 2025 صورة أكثر تعقيداً، حيث سجلت المدينة انخفاضاً إجمالياً بنحو 9 في المئة في عدد المشردين، مع تراجع لافت في تشرد الأسر، وهو ما ينسبه مسؤولو المدينة لاستثمارات في المأوى والبرامج السكنية الداعمة، لكن التراجع لا يلغي هشاشة المنظومة ولا يضمن قدرة الاستيعاب، كما أن التفاوتات العرقية والإقليمية باقية، الأمر الذي يحد من فاعلية نهج المداهمات الواسعة.
وأعادت المحكمة العليا الأمريكية رسم خط ملاحة كبير في يونيو 2024 حين أقرت في قضية “غرانتس باس ضد جونسون” بشرعية فرض غرامات وحتى أحكام سجن على النوم في الأماكن العامة، ولو في بيئات شحّ فيها المأوى، وهو حكم وفّر غطاءً قانونياً لمدن وولايات لتوسيع حظر التخييم والتشرد العلني، لكنّ خبراء قانونيين وجمعيات حقوقية يحاججون بأن الحكم لا يلزم السلطات، وأنه لا يعطل المعايير الدولية التي تحظر المعاملة المهينة، ولا يمنع سن سياسات محلية بديلة قائمة على السكن والدعم.
الفجوة بين الوعود والقدرات
تعِد الإدارة بإتاحة بدائل من الملاجئ وخدمات الصحة النفسية والإدمان، لكن أصوات الميدان تشير إلى أن الطاقة الاستيعابية للملاجئ محدودة، وأن الإخلاءات السريعة لمن بلا مأوى غالباً ما تفضي إلى فقدان الوثائق والأدوية وأواصر الثقة التي يبنيها العاملون الاجتماعيون مع الأفراد عبر الزمن.
وتظهر مراجعات مهنية وتراكم الخبرة المدنية أن تكاليف التجريم وإنفاذه أعلى من تمويل حلول سكنية دائمة، وأن “الترحيل إلى المجهول” ينتج دورات عودة للمخيمات في مواقع جديدة، أو يدفع الناس إلى أماكن أبعد وأخطر، من دون معالجة أزمات الدخل والإيجارات والصحة العقلية التي تقف خلف الظاهرة.
منظمات مثل المركز الوطني لقانون المشردين والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية طالبت بوقف الإخلاءات من دون بدائل، وعدت خنق المساحات العامة أمام أنشطة البقاء الأساسية انتهاكاً لحقوق التجمع والتنقل والخصوصية، أما التحالف الوطني لإنهاء التشرد فذكّر بأن هذه الزيادة القياسية وطنياً تتطلب مضاعفة المعروض من السكن الميسور، وتمويل خدمات الصحة النفسية والإدمان، وتعزيز وقاية الأسر من السقوط الأول في التشرد، ولا سيما مع نهاية برامج دعم الجائحة.
بين المحلي والفيدرالي
قانوناً، تمتلك الحكومة الفيدرالية اليد الطولى على الأراضي والحدائق الفدرالية في واشنطن، وقد استخدمت هذه الصلاحية تاريخياً لإزالة مخيمات في ساحات قريبة من البيت الأبيض ووزارة الخارجية، الجديد الآن هو الجمع بين لغة “الطوارئ” واتساع نطاق الإخلاء والتجريم، ما يثير أسئلة حول ملائمة الأدوات الأمنية لقضية اجتماعية مركبة، وحول التناسق مع التزامات الولايات المتحدة الحقوقية الدولية.
ومع خطط العاصمة التي تسعى لتقليص التشرد عبر الإسكان والدعم لا عبر الإبعاد القسري، هذا التوتر قد ينتهي إلى أروقة المحاكم والإجراءات الرقابية، لكنه في الحاضر ينعكس مباشرة على مصائر آلاف ممن وجدوا في الحدائق ملاذاً أخيراً.
تاريخياً، نشأت موجات التشرد الحديثة في الولايات المتحدة من تلاقي عدة عوامل منها تفكك مؤسسات الرعاية النفسية من دون بدائل مجتمعية كافية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأزمات الإسكان الميسور، وتذبذب الأجور، وتراجع شبكات الحماية، مع دور متصاعد للأمراض النفسية والإدمان في بعض الشرائح
وتشير بيانات وزارة الإسكان والتنمية الحضرية لعام 2024 إلى بلوغ عدد المشردين 771 ألفاً تقريباً، بزيادة قدرها 18 في المئة عن 2023، مع ارتفاع تشرد الأطفال والأسر والتشرد المزمن، أما في واشنطن، فتظهر بيانات إحصاء 2025 انخفاضاً بنسبة 9 في المئة مقارنة بعام 2024، وهو الأكبر على مستوى منطقة العاصمة، رغم استمرار فجوات القدرة الاستيعابية.
وفي المقابل، تؤكد بيانات البيت الأبيض وتصريحات المتحدثة باسم الإدارة إمكانية فرض غرامات وسجن على الرافضين، مع استمرار عمليات إزالة المخيمات من الأراضي الفيدرالية.