المشردون تحت قبضة الشمس.. موجة حرّ تفضح خيمة الإنسانية المثقوبة في قلب فرنسا

المشردون تحت قبضة الشمس.. موجة حرّ تفضح خيمة الإنسانية المثقوبة في قلب فرنسا
باريس

في زوايا باريس التي لا تراها الكاميرات السياحية، وفي هوامش مدن الشمال الفرنسي حيث يلتصق الإسفلت بوجوه الفقراء، يعيش المهاجرون والمشردون فصولًا ملتهبة من مأساة متكررة، صارت حرائقها تكتب فصولًا جديدة في سجل الإهمال الأوروبي، فموجة الحر التي تضرب فرنسا هذا الأسبوع ليست مجرّد حدث جوي عابر، بل اختبار صارخ لإنسانية تُقاس فيها الحقوق ببطاقات الإقامة، لا بضرورات الحياة، وتجاوزت درجات حرارة 42 درجة مئوية في باريس وضواحيها، بل وصلت الحرارة المحسوسة إلى 47 درجة فوق بعض الأسطح الإسفلتية، وفق بيانات مركز أبحاث المناخ الأوروبي (ECMWF)، وتحوّلت بذلك الشوارع التي يأوي إليها المهاجرون إلى أفران مفتوحة، لا تحوي سوى رماد الانتظار.

هذه الموجة المصنّفة من بين الأشد خلال العقود الأخيرة، سببها تيارات حارة قادمة من شمال إفريقيا، اجتاحت البلاد كأنها تذكير بحدود الجغرافيا التي لا تعترف بالفوارق القانونية بين من يملك منزلاً ومن يملأ نهاراته بظلال الأرصفة، وأكثر من 86 مقاطعة فرنسية وضعت تحت الإنذار البرتقالي منذ الثلاثين من يونيو، فيما رفعت 16 مقاطعة الإنذار إلى المستوى الأحمر، وهو الأعلى في سلّم التحذيرات المناخية بحسب وكالة الأرصاد الجوية الفرنسية.

في قلب هذه الخرائط المناخية، يكمن وجه بشري مأساوي لا تلتقطه الأقمار الصناعية: آلاف المهاجرين الذين يعيشون في الخلاء، بلا مأوى، بلا ماء، وأحيانًا بلا شهقة نجاة. رجل سوداني خمسيني يُدعى محمد، يقيم في خيمة رمادية مهترئة على ضفاف قناة في لون-بلاج قرب دونكيرك، قال بصوت مبحوح وهو يمسح العرق عن جبينه: “نمشي ليلاً ونختبئ نهاراً. لا ماء هنا منذ ثلاثة أيام، الحرارة جعلت أطفالنا يصرخون من الجفاف، وليس هناك من يسمعنا”، إنّه صوتٌ يكاد يتبخّر في الهواء، كما تتبخّر حقوقه.

معاناة المهاجرين في الشمال الفرنسي

على امتداد الشمال الفرنسي، من كاليه إلى غراند-سينث، تتحوّل مخيمات المهاجرين إلى جزر منسية وسط محيط من التحذيرات الرسمية، والسلطات الفرنسية تطلق نصائح عامة: اشربوا الماء، تجنّبوا الشمس، احتموا في أماكن مكيفة، لكنها تعليمات لا تصل إلا إلى أولئك الذين يملكون أبواباً تُغلق خلفهم، وفي المقابل، أولئك الذين ينامون تحت الجسور أو قرب خطوط القطارات، لا يملكون سوى ظلال الخيام البالية وسقف من الشمس الحارقة.

وقد أطلقت منظمة Utopia 56، العاملة ميدانيًا في مناطق الشمال، صرخة تحذير قبل أيام عبر بيان نُشر في منصة "مهاجر نيوز"، أشارت فيه إلى "أزمة إنسانية حادة بسبب نقص المياه وغياب الحماية"، مؤكدة تدهور صحة الأطفال والنساء الحوامل، مع تسجيل حالات إغماء يومية بسبب الجفاف، هذه ليست أرقامًا طبية باردة، بل حكايات حارقة تُروى عبر نبض مُنهك في جسد مراهقة إريترية تُدعى سلمى، تبلغ من العمر 17 عاماً، جلست تحت لوحة إعلانات مهجورة في سان دوني الباريسية وقالت لمتطوعة: "أريد فقط أن أستحم، أن أشرب الماء، أن أكون في غرفة لا تلسعني فيها الشمس". عبارة تُجسد مأساة كبرى، كتبها العجز بمداد الشمس على أجساد الفقراء.

في كاليه، التي طالما كانت بؤرة الصراع بين السلطات والمهاجرين، يتنقّل أكثر من 1,200 شخص بين مخيمات عشوائية لا تعترف بها الدولة. منظمة "أطباء العالم" (Médecins du Monde) كشفت في تقريرها الأخير أن هؤلاء لا يحصلون سوى على 1.5 لتر من الماء يوميًا، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بتوفير 15 لترًا على الأقل في الأزمات الإنسانية. إنها فجوة لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بما تعنيه من عطش وتهديد مباشر للحياة.

هذا الواقع يُعري الخطاب الحقوقي الرسمي في فرنسا، ويكشف عن مفارقة مريرة: فبينما تُفعل "خطة الحر الشديد" لحماية المسنين في 400 دار رعاية و100 مركز اجتماعي في العاصمة، وتوزع بلدية باريس 180 ألف زجاجة مياه عبر المترو، لا تصل هذه التدابير إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها، باريس التي تكيّف المكاتب والأحياء الراقية، تغضّ الطرف عن الأرصفة الحارقة حيث ينام من لا يملكون عنوانًا ثابتًا.

في مدينة غراند‑سينث، تُنفّذ السلطات المحلية عمليّات تفكيك منتظمة للمخيمات، بمعدّل كل 48 ساعة تقريباً، بذريعة “الحفاظ على الصحة العامة”، وهذا ما توصّل إليه تقرير صادر عن أطباء مصلحة حقوق الإنسان (Human Rights Watch)، الذي رصد أكثر من 90 عمليّة طرد جماعي من المخيمات في شمال فرنسا خلال عام 2020 والنصف الأوّل من عام 2021، ونوّه بأنّ "عمليات الإجلاء كلّ 48 ساعة في كال ais كانت روتينية، وفي غراند‑سينث تتم بمعدّل عملية أو عمليتين أسبوعياً" هذا النهج الأمني يؤدي إلى تدمير الخيام مصادرة البطانيات وتجريد السكان من مستلزماتهم بشكل متكرر، ما يتركهم لليالي بلا مأوى أو حماية.

منظمة "هيومن رايتس ووتش" وصفت في تقريرها لعام 2020 تدخلات الشرطة بأنها "جعلت حياة المهاجرين لا تُطاق جسدياً ونفسياً"، وأن الأطفال والكبار يعيشون "في حالة إنذار دائم" . وفي عام 2023، كرّرت المنظمة وصفها لهذه الممارسات بأنها "مهينة وغير إنسانية"، مطالبة بوقف مصادرة الضروريات كالنوم والمأوى والماء. المفارقة القاتلة التي باتت يومية هي: في درجة حرارة تصل إلى 45 درجة مئوية، يُطلب من المهاجر شرب الماء، لكنه يُسلب منه ببساطة في الثالثة فجراً عندما يُصادر خيمته وزجاجة مياهه، هذه ليست فقط ازدواجية مؤسسية، بل بؤرة حي -يمكن لمسها- من اللاإنسانية في قلب أوروبا.

قوانين وتشريعات

في الوقت ذاته، البرلمان الفرنسي يُواصل مناقشة مشاريع قوانين تهدف إلى تسريع ترحيل المهاجرين غير النظاميين، في حين يبقى عدد المستفيدين من الحماية الصفريّة مقارنة بالحاجة الحقيقية، في المقاربة الرسمية، تكمن المشكلة "في وجودهم"، لا في نقص موارد المأوى أو النفاد! بالمقابل، تعبّر الجهود المدنية عن إرادة تضامنية مرهقة: متطوّعون يوزعون عبوات مياه صغيرة (عادة 0.5 لتر)، ويحملون على أكتافهم ما تبقّى من ضمير جماعي. لكن الماء لا يصل إلّا بكميات قليلة وشحيحة، في ظل صمت شبه رسمي يمثل تواطؤاً صامتاً.

على مستوى التشريع الدولي، أصدر مجلس أوروبا في مارس 2024 تقريرًا صنّف فيه فرنسا ضمن الدول التي "فشلت في حماية اللاجئين والمهاجرين من آثار التغير المناخي"، وأشار إلى وجود "إهمال منهجي للفئات غير المندمجة قانونياً"، مع توصية واضحة بإنشاء "مراكز تبريد متنقلة" وتشريعات إلزامية لضمان التغطية لكل الفئات، دون التمييز بناءً على الأوراق الرسمية . لكن، مثل معظم التوصيات الدولية، بقي الحبر أكثر وفاءً من الماء؛ والجفاف الذي يعانيه المهاجرون، خاصة الأطفال، لا ينتهي بالكلمات.

في منظور أوسع، لا يمكن فصل هذه الكارثة الإنسانية عن التغير المناخي العالمي، وأكد تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) لعام 2023 أن "أوروبا تشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة بنسبة أسرع بمقدار 1.5 مرة من المعدل العالمي"، وأن موجات الحر ستتكرر وتصبح أكثر حدة عاماً تلو الآخر وهذا الواقع يفضي إلى نتيجة لا تقبل التأويل: الفقراء، والمهاجرون خصوصاً، سيكونون أول ضحايا هذه الظاهرة المناخية، فعليًا وجسديًا.

 إهمال رسمي ومعاناة متفاقمة 

أكد الدكتور مجيد بودن، رئيس جمعية محامي القانون الدولي في باريس، أن الدولة الفرنسية مُلزمة قانونًا بحماية كل من يقيم على أراضيها من آثار التغيرات المناخية، سواء كانوا فرنسيين، أجانب مقيمين، أو حتى سُياحاً.

وأوضح في تصريح لـ"جسور بوست" أن هذا الالتزام لا ينبع فقط من البعد الإنساني، بل يستند أيضًا إلى التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية، التي تُلزم الدولة باتخاذ تدابير وقائية واستجابات عاجلة لمواجهة موجات الحر والبرد والفيضانات والأعاصير.

وأضاف بودن أن ما يزيد على 20 حالة من درجات الحرارة القصوى سُجلت خلال العقدين الأخيرين، من أصل 50 حالة منذ عام 1947، ما يثبت تسارع وتيرة الكوارث المناخية، وضرب مثالًا بموجة الحر القاتلة عام 2003 التي أودت بحياة أكثر من 15,000 شخص، قائلًا إن هذه الكارثة دفعت السلطات لوضع خطط استباقية صارمة.

برامج دعم سكني وتعزيز العزل الحراري

أشار بودن إلى أن الدولة الفرنسية أطلقت برامج دعم مالي واسع لترميم البيوت وتحسين العزل الحراري دون تمييز، باعتبار أن هذه السياسة تخدم أهدافًا إنسانية واقتصادية في آن، أبرزها تقليص الاعتماد على الطاقة المستوردة.

وشدّد على أن المهاجرين، نظاميين أو غير نظاميين، لا يجوز استثناؤهم من الحماية، لأن القانون يُلزم الدولة بضمان الحق في الماء والمأوى والرعاية خلال الأزمات المناخية، وأكد أن المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تلعب دورًا موازيًا من خلال فرق ميدانية متنقلة توزع المياه والملابس وتوفر مأوى مؤقتًا عند الحاجة.

 قويدر: موجات الحر تكشف هشاشة مأساوية في مخيمات اللاجئين

في السياق ذاته، حذّر الإعلامي الفرنسي من أصول مغاربية توفيق قويدر من كارثة إنسانية "مكتومة" تطول المهاجرين غير النظاميين الذين يفترشون الأرصفة أو يعيشون في خيام بلا ماء ولا ظل، في وقت بلغت فيه درجات الحرارة 40 درجة مئوية في بعض المناطق.

وصرّح لـ"جسور بوست" بأن مخيمات عشوائية تنتشر في باريس (الدائرتين 11 و18 و20) وضواحي إيل دو فرانس، فضلًا عن مناطق مثل "غابة كاليه" شمال البلاد، والتي تحولت إلى نقاط بؤس مكتظة ومعزولة.

وأضاف أن كثيرًا من هؤلاء يلجؤون للحدائق أو الأرصفة بحثًا عن الماء، في حين تبقى صنابير الشرب معطّلة أو مخرّبة، ما يُضاعف المعاناة، وسط غياب منظومة طوارئ فعالة.

غياب خطة طوارئ مدمجة وشاملة

انتقد قويدر تعامل البلديات الكبرى مثل باريس ونيس ومرسيليا وتولوز مع الظاهرة، مشيرًا إلى أن غياب خطة طوارئ مدمجة وشاملة للمهاجرين جعل الأزمة تتفاقم عامًا بعد عام.

وأشار إلى أن السلطات أخلت العاصمة من الخيام قبيل الألعاب الأولمبية مؤقتًا، ثم سرعان ما عادت المخيمات بعد انتهاء الحدث، ما يعكس سياسة "الترقيع لا المعالجة".

ورأى أن ضعف الإرادة السياسية، والعدد المتزايد من المهاجرين، وفجائية التغير المناخي شكلت مثلث الفشل في الاستجابة. كما لفت إلى أن بعض المهاجرين وقعوا ضحية الإدمان على المهلوسات والمخدرات، ما أفرز أزمة موازية تتعلق بالصحة العقلية والنفسية في قلب المخيمات.

نوّه قويدر بجهود المنظمات غير الحكومية والجمعيات المحلية، التي تواصل تقديم المساعدة رغم قلة الموارد، مؤكدًا أن هذه الجهود، رغم نبلها، لا تكفي لسد الفجوة المتسعة بين الحاجة والاستجابة.

وختم بتحذير من موجة حر قادمة خلال الأيام المقبلة، داعيًا إلى تحرك عاجل وشامل من قبل الحكومة الفرنسية، "قبل أن تتحول الخيام إلى توابيت صامتة على أرصفة المدن".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية