منظمات الإغاثة تصطدم بالقوانين الإسرائيلية.. والمعاناة في غزة تتفاقم إثر غياب الغذاء والدواء

منظمات الإغاثة تصطدم بالقوانين الإسرائيلية.. والمعاناة في غزة تتفاقم إثر غياب الغذاء والدواء
غزة - أرشيف

في قطاع غزة المحاصر، لم يعد الطريق إلى الغذاء أو الدواء محكوما فقط بقدرة المنظمات الإنسانية على جمع التمويل أو تسيير القوافل. فاليوم، باتت القواعد الإسرائيلية الجديدة التي تنظم عمل المنظمات الأجنبية عقبة أساسية تعرقل وصول المساعدات إلى المدنيين، في وقت تصف فيه الأمم المتحدة الوضع بأنه "كارثة إنسانية تلوح في الأفق"، وبينما تتحدث إسرائيل عن دوافع أمنية وسياسية لتشديد الرقابة، ترى منظمات الإغاثة الدولية أن ما يجري "عقاب جماعي" يترك ملايين الغزيين بلا أبسط مقومات الحياة.

أكثر من مئة منظمة غير حكومية، من بينها “أوكسفام” و"أطباء بلا حدود"، وجهت رسالة مشتركة في أغسطس الجاري تؤكد أن السلطات الإسرائيلية ترفض بشكل متزايد طلباتها لإدخال المساعدات، ففي يوليو وحده، رُفض 60 طلباً لإدخال إمدادات منقذة للحياة إلى قطاع غزة، بدعوى أن هذه المنظمات "غير مخوّلة" للعمل. المنظمات عدت هذه السياسة تحولاً خطِراً، خصوصاً أن غزة تعتمد بشكل شبه كامل على الإغاثة الخارجية بعد تدمير بناها التحتية الصحية والاقتصادية.

العمل الإنساني تحت المجهر

في مارس الماضي، أقرت الحكومة الإسرائيلية مجموعة من القواعد الجديدة الخاصة بالمنظمات الدولية التي تعمل مع الفلسطينيين. هذه القوانين تشترط إعادة تسجيل المنظمات، وتمنح السلطات حق رفض أو إلغاء تسجيل أي جهة تعتبرها "منكرة للطابع الديمقراطي لإسرائيل" أو داعمة لحملات مقاطعتها.

ودافع وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكلي دافع عن هذه التوجهات قائلاً إن "الكثير من منظمات الإغاثة تعمل غطاءً لأنشطة عدائية"، لكنه أكد أن "المنظمات البعيدة عن هذه الأنشطة ستحصل على الإذن بالعمل".

بالنسبة للمنظمات الإنسانية، هذه المعايير فضفاضة وتُستخدم لرفض طلبات لا علاقة لها بالأمن، وقالت جوليان فيلدفيك، مديرة منظمة كير في غزة: "مهمتنا إنقاذ الأرواح. لكن بسبب القيود يُترك المدنيون بلا غذاء أو دواء أو حماية" وأكدت أن منظمتها لم تتمكن منذ مارس من إدخال أي مساعدات رغم أن احتياجات السكان تتضاعف يومياً.

من التحذير إلى الإدانة

الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية تبنّت موقفا أكثر صرامة في مواجهة هذه التطورات. منسق الطوارئ الأممي وصف منع دخول المساعدات بأنه "عقاب جماعي غير مقبول"، محذراً من أن الحصار المتواصل يهدد بدفع القطاع إلى مجاعة واسعة، وأكد أن ما بين 10 و15 شاحنة فقط تدخل يومياً من أصل 250 ممكنة، وهو رقم لا يغطي الحد الأدنى من احتياجات مليوني شخص.

فرق المساعدات الأممية رفضت كذلك المقترحات الإسرائيلية التي تربط توزيع المعونات بمراكز خاضعة لإدارة عسكرية، معتبرة أن ذلك يمثل "تسليحاً للمساعدة"، بالنسبة للأمم المتحدة، مبدأ العمل الإنساني قائم على الحياد والاستقلالية، وأي مساس به يعني فقدان الثقة وحرمان المدنيين من الدعم العاجل.

وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وجدت نفسها هدفاً لحملة إسرائيلية متصاعدة، وقد وصف مديرها فيليب لازاريني هذه الحملة بأنها "خبيثة" وتهدف إلى إقصاء الوكالة من الأراضي الفلسطينية، وأوضح أن الأونروا هي "عصب العملية الإغاثية"، وأن إضعافها سيؤدي إلى فراغ لا يمكن لأي جهة أخرى ملؤه.

الأونروا تتولى منذ عقود توفير التعليم والرعاية الصحية والغذاء لمئات الآلاف من اللاجئين، وهي بحسب مسؤوليها "شريان حياة" لا يمكن الاستغناء عنه. استهدافها يثير مخاوف من انهيار المنظومة الإنسانية بأكملها في القطاع.

مشهد ميداني مضطرب

في ظل هذه القيود، لجأت إسرائيل منذ مايو إلى الاعتماد على "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة أمريكيا لتوزيع الأغذية، لكن هذه التجربة وُصفت بالفوضوية، حيث يتدافع آلاف الغزيين يومياً نحو المراكز، وسط مشاهد من الفوضى وأعمال العنف، وصل بعضها إلى إطلاق النار على المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على حصصهم.

هذه الوقائع، بحسب جهاز الدفاع المدني في غزة، تعكس خطورة ترك إدارة المساعدات في يد جهات غير قادرة على تلبية الاحتياجات أو ضمان وصول الدعم إلى مستحقيه.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حذر مؤخرا من أن الخطة الإسرائيلية للسيطرة على مدينة غزة قد تفتح الباب أمام "كارثة إنسانية"، وأكد أن استمرار الحصار وتقييد دخول المساعدات سيضاعف الجوع والتشريد، مشيراً إلى أن الأطفال يشكلون الفئة الأكثر عرضة للخطر، حيث تتزايد حالات سوء التغذية الحاد ونقص الأدوية المنقذة للحياة.

اللجنة الأممية لحقوق الإنسان ذهبت أبعد من ذلك، إذ عدت إسرائيل "تستخدم الحصار سلاح حرب"، في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني.

ضغط دولي متزايد

هذه المواقف الأممية لاقت دعماً متزايداً من المجتمع الدولي. فقد أصدرت 27 دولة، من بينها دول أوروبية وكندا وأستراليا واليابان، بياناً مشتركاً يطالب إسرائيل بفتح المعابر أمام الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية بشكل دائم، وحذر البيان من أن الوضع الحالي يفاقم أزمة المجاعة ويهدد بارتفاع معدلات وفيات الأطفال.

ورغم ذلك، لم تُظهر الحكومة الإسرائيلية استعداداً ملموساً لتغيير سياساتها، بل على العكس، تواصل الدفاع عن الإجراءات باعتبارها ضرورية لمنع "استغلال المساعدات من قبل حركة حماس".

الخلاف بين إسرائيل والمنظمات الإنسانية ليس وليد اللحظة، لكنه بلغ ذروته بعد هجوم حماس في أكتوبر 2023، منذ ذلك الحين، تزايدت القيود على حركة المساعدات، وتحوّل العمل الإنساني إلى ملف سياسي وأمني يخضع لمعادلات القوة. بالنسبة للفلسطينيين في غزة، النتيجة واحدة: حرمان مستمر من الغذاء والدواء والماء، وتفاقم المعاناة في ظل قصف ودمار وانهيار شبه كامل للخدمات

في ضوء ما سبق، تبدو أزمة غزة أبعد من مجرد نقاش حول لوائح تسجيل المنظمات أو آليات توزيع المساعدات، هي أزمة إنسانية متجذرة تتشابك فيها السياسة مع القانون الدولي والاعتبارات الأمنية، وبينما تصر الأمم المتحدة على أن وصول المساعدات "ليس ترفاً بل ضرورة وجودية"، تواصل إسرائيل فرض قيود مشددة تترك أكثر من مليوني إنسان تحت رحمة الجوع والمرض.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية