بين فكي الحرب والجوع.. كيف تحوّل الغلاء إلى سلاح ضد المدنيين في السودان؟

بين فكي الحرب والجوع.. كيف تحوّل الغلاء إلى سلاح ضد المدنيين في السودان؟
نازحون سودانيون

في الخرطوم ومدن دارفور وكردفان والجزيرة، لا تُقاس الأزمة اليوم بعدد الطلقات بقدر ما تُقاس بكلفة ما في السلة، وبالطريق المفتوح أو المغلق أمام شاحنة طحين أو شاحنة حليب علاجي لطفل هَزَله الجوع. خلال عامين من حرب مفتوحة بين الجيش وقوات الدعم السريع، تمددت دوامة الفقر والجوع وارتفاع الأسعار لتصير الملمح الأبرز لحياة ملايين السودانيين، وتحوّل السوق إلى ساحة مواجهة موازية تحكمها المضاربات، وانقطاع الإمدادات، وتآكل الجنيه، وبينما تتكاثر طوابير الخبز والوقود والدواء، تتكاثر أيضًا مؤشرات المجاعة والأوبئة، وتقلّ قدرة المنظمات على الوصول والإنقاذ.

تقديرات الأمم المتحدة وشركائها تُظهر اتساعًا غير مسبوق في رقعة الجوع الحاد داخل السودان، فبحسب تنبيهات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، امتدّت مناطق المجاعة المؤكدة إلى جيوب في شمال دارفور وكردفان خلال النصف الأول من 2025، وسط قفزات في أسعار الغذاء وتراجع حاد في الدخل وفرص الوصول، مع تأكيد استمرار مستويات انعدام الأمن الغذائي الحاد في الخرطوم والجزيرة بفعل تدمير البنية والخدمات وانقطاع الإمداد، وقد أعاد هذا التحذير التأكيد على أن العنف والقيود على الحركة سببان مباشران في تجويع المدنيين. 

انفلات الأسعار

ورغم تذبذب شهري محدود، تُظهر نشرات مراقبة الأسواق لبرنامج الأغذية العالمي أن كلفة السلة الغذائية المحلية بقيت عند مستويات تاريخية، أعلى بنحو الضعف مقارنة بالعام الماضي، فيما ظلّ سعر الصرف الموازي متقلبًا بعد هبوطٍ حاد على مدى عام، هذا يعني ببساطة أن أي انخفاض طفيف في سعر سلعة يعقبه ارتفاع أكبر في أخرى، وأن دخل الأسرة لا يلحق بموجة الغلاء.

وفي تفاصيل محلية من أسواق العاصمة، قفزت أسعار السكر والدقيق والزيت والبيض والألبان، وتزايدت كُلفة غاز الطهي والوقود، ما جعل الأسر العائدة من النزوح عاجزة عن توفير الحد الأدنى اليومي من الغذاء والطهي والتنقّل. 

الأسواق لا تنتعش في الحصار، ففي الفاشر، آخر معاقل الجيش في دارفور، يصف شهود وعاملون إنسانيون مدينةً منهكة تحت ضربات الطائرات المسيّرة والقصف، وبلا كهرباء ونقص في الخبز والدواء، مع إغلاق الطرق أو مهاجمتها ومنع القوافل، ما يدفع السكان إلى أكل العلف وبقايا الحبوب.

وفي مناطق جنوب الخرطوم، حذّر برنامج الأغذية العالمي من خطر مجاعة في السودان إذا استمر العجز التمويلي وتعذّر الوصول. كما نبّهت الوكالة من أنها اضطرت إلى خفض الحصص وتعليق المكملات الغذائية للأطفال والحوامل بسبب فجوة تمويلية كبيرة. 

أوبئة فوق الجوع

الجوع لا يأتي وحيدًا، فمع انهيار مياه الشرب والصرف الصحي والخدمات الصحية، تمدّد وباء الكوليرا عبر معظم الولايات السودانية، مع عشرات الآلاف من الحالات خلال 2025 ونسب وفيات تفوق الحدود المتوقعة في تفشيات مماثلة، وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن الجوع والمرض يتسارعان جنبًا إلى جنب، وأن النظام الصحي يعمل فوق طاقته بكثير.

وبحسب "اليونيسف" فإن المشهد في مخيمات دارفور أكثر قسوة مع تسجيل منظمات طبية مئات الوفيات وعشرات آلاف الإصابات في أسابيع قليلة. 

تقول يونيسف إن 3.2 مليون طفل دون الخامسة مُعرّض لسوء تغذية حاد هذا العام، بينهم نحو 770 ألفًا مرشحون للإصابة بالشكل الأشد فتكًا، وفي دارفور وحدها تضاعف عدد الأطفال الذين تلقّوا علاج سوء التغذية الحاد خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2025 مقارنة بالعام الماضي، وهو إنذار مبكر على انهيار شبكات الحماية الغذائية والصحية للأصغر سنًا. 

اقتصاد بلا أوكسجين

أشعلت الحرب أكبر أزمة نزوح في العالم الآن، إذ تجاوز عدد النازحين داخليًا واللاجئين عبر الحدود اثني عشر مليونًا، وتعلن مفوضية اللاجئين أن الشبكات الإقليمية المُضيفة تحت ضغط هائل، في حين تحذّر وكالات الإغاثة من أن تمويل برامج اللاجئين في دول الجوار قد ينضب، ما يهدد بقطع الغذاء عن ملايين آخرين، وهذا الثقل البشري على اقتصاد متهالك، بلا بنية أساسية وبلا إنتاج منتظم وبلا سيولة تمويلية كافية، يعني أن دوامة الفقر ستتسع وفق البنك الدولي.

ووثّقت منظمات حقوقية دولية أنماطًا ممنهجة من عرقلة المساعدات ونهبها ومنع الحركة واستهداف مرافق مدنية، ورأت أن ذلك يرقى إلى استخدام التجويع وسيلة حرب في بعض المناطق. وفي القانون الدولي الإنساني يُحظر صراحةً أسلوب القتال الذي يعتمد على تجويع المدنيين.

ويؤكد قرار مجلس الأمن 2417 أن عرقلة الإغاثة ومهاجمة الأعيان الضرورية لبقاء المدنيين قد يرقى إلى جرائم حرب، مع دعوة الأطراف إلى ضمان وصول المساعدات دون عوائق، هذا الإطار القانوني ليس ترفًا بل أداة مساءلة لا بد من أن تتحول إلى آليات تنفيذية وعقوبات محددة لمنع الإفلات من العقاب. 

ماذا تقول الأمم المتحدة؟

تكرر الأمم المتحدة ووكالاتها أن السودان على شفا كارثة مجاعة ممتدة، وأن فجوة التمويل الهائلة لخطة الاستجابة تهدد بوقف برامج أساسية كالتغذية والعلاج من الكوليرا وتوفير المياه، ونوه برنامج الأغذية العالمي إلى خفض الحصص وإيقاف مكملات الأطفال بسبب نقص التمويل، ومنظمة الصحة العالمية حذرت من تداخل موجات الجوع مع تفشي الأمراض، أما يونيسف فتضع الأطفال في قلب النداء وتدعو لفتح الممرات وتأمين الوقاية والتغذية العلاجية بشكل عاجل. 

على الأرض، تفسّر شهادات المتسوقين والباعة والنازحين كيف يُترجم العنف إلى أسعار، فقد تضاعفت كُلفة السلال الغذائية، وقفزت أسعار السكر والدقيق والزيوت والحليب والبيض، وارتفعت كلفة أسطوانات الغاز والوقود بما يبدد أي دخل يومي متواضع، ويعكس هذا مزيجًا من انقطاع الإمدادات، ورسوم عبور غير رسمية على الطرق، وندرة الوقود، وتقلّب العملة، وتوقّف أجزاء كبيرة من سلاسل التوريد في الجزيرة والخرطوم ودارفور. 

توصيات الخبراء

توصيات الخبراء والوكالات تتقاطع عند ثلاث محطات: الأولى إنسانية بحتة من خلال تمويل عاجل وكبير لخطة الاستجابة، وإتاحة وصول آمن ودائم عبر ممرات برية وجوية إلى بؤر المجاعة، مع حماية الطواقم والمنشآت وتغليب الطوارئ الصحية والمياه والنظافة والتغذية العلاجية على أي قيود إدارية أو أمنية، والثانية اقتصادية مؤقتة من خلال إجراءات لتخفيف كلفة السلة، بينها دعم نقل الغذاء والوقود للولايات الأشد تضررًا، وإعفاءات جمركية ورسوم طريق للسلع الأساسية، وضبط نقاط الجباية غير الرسمية، أما الثالثة فهي سياسية وقانونية من خلال إلزام الأطراف باحترام القانون الدولي الإنساني، ومحاسبة من يستخدم التجويع أو يهاجم الأعيان المدنية، وتفعيل آليات المراقبة والعقوبات مع مسار تفاوضي جاد لوقف دائم للنار؛ لأن أي استجابة إنسانية بلا إطار سياسي مستقر ستظل إسعافًا مؤقتًا في معركة طويلة.

تعود جذور الأزمة الاقتصادية إلى ما قبل الحرب الحالية، وتحديداً فيما بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 حيث خسر الاقتصاد معظم عائدات النفط، وتراكمت الاختلالات المالية، وتآكلت القدرة الشرائية تحت تضخم مزمن، تلا ذلك اضطرابات 2018 و2019 التي فجّرت موجات احتجاج على الخبز والوقود، ثم تعثّر مسار الانتقال السياسي عقب إجراءات 2021، لتدخل البلاد في حلقة انكماش وفقدان ثقة وتراجع استثمار.

وجاءت حرب أبريل 2023 لتُسقط ما تبقى من مؤسسات ومصانع ومخازن ونُظم توزيع، وتُغلق مساحات واسعة من الإنتاج الزراعي والصناعي، وتدفع الملايين إلى النزوح. 

وفي 2025، ومع تعمّق الحصار على مدن دارفور واتساع نطاق القتال، تضخمت أعداد الجوعى والنازحين، وارتفعت كُلفة الغذاء إلى مستويات تاريخية، فيما بقي تمويل خطة الإغاثة أقل من المطلوب بكثير، وفق تقديرات أممية حديثة، يعيش أكثر من 25 مليون شخص مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي، ويفوق عدد النازحين داخليًا واللاجئين اثني عشر مليونًا، في حين تتواصل نداءات وكالات الأمم المتحدة، وعلى رأسها برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية ويونيسف، لتمويل عاجل وضمان وصول دون عوائق. 

السودان اليوم يعاني، ليس من أزمة أسعار فحسب، بل من اقتصاد حرب متشظٍّ، ومساحات جغرافية خاضعة لحصار متكرر، ومنظومة صحية تنهار تحت موجات الجوع والوباء، وإذا كان الجوع يُقاس عادةً بالسعر والكمية، فإنه هنا يُقاس أيضًا بكمّ الطرق المقطوعة، وحجم المساعدات الممنوعة، وسرعة تآكل العملة، ووقت الاستجابة الدولية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية