شبكات أمان تحت النار.. كيف تدعم الأمم المتحدة الناجيات من العنف بالسودان؟

شبكات أمان تحت النار.. كيف تدعم الأمم المتحدة الناجيات من العنف بالسودان؟
ليلى بكر تعانق سودانية نازحة

لم تكن الشابة التي همست كلمة "اغتُصبت" لليلى بكر سوى وجه واحد لمحنة واسعة تتقاطع فيها الحرب مع الجوع والانهيار الصحي. في السودان، حيث تتشابك خطوط النار من العاصمة إلى دارفور وكردفان والشرق، تتحول أجساد النساء والفتيات إلى ساحات حرب صامتة.

هنا يبرز صندوق الأمم المتحدة للسكان بوصفه جهة تقود الاستجابة الصحية والحمائية للناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، محاولاً تثبيت ما أمكن من الحق في الأمان والكرامة والولادة الآمنة داخل منظومة صحية تتهالك كل يوم.

وتشير أحدث التقديرات الأممية إلى أن عدد الأشخاص المعرّضين للعنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان تضاعف إلى أكثر من ثلاثة أضعاف منذ أبريل 2023، ليتجاوز اثني عشر مليون شخص، معظمهم نساء وفتيات، وهذا الارتفاع يعكس ليس فقط اتساع رقعة العنف المسلح، بل أيضاً انهيار أنظمة الحماية الرسمية وغير الرسمية في مجتمعات نزح فيها الملايين وتفككت فيها سبل العيش.

وفي المناطق الأكثر تضرراً تعمل نسبة محدودة من المرافق الصحية مقارنة بما قبل الحرب، ما يحرم الناجيات من خدمات أساسية مثل الرعاية الطارئة بعد الاغتصاب والرعاية قبل الولادة، هذه المعادلة تجعل كل ساعة تأخير في الوصول إلى خدمات طبية وقانونية موثوقة سبباً إضافياً لتفاقم الأذى الجسدي والصدمي. 

تدخل صندوق الأمم المتحدة

يرتكز تدخل الصندوق على ثلاثة محاور متكاملة، الأول هو ضمان خدمات الصحة الإنجابية المنقذة للحياة من خلال دعم الولادات الآمنة وتوزيع مجموعات الولادة النظيفة وتوفير القابلات المدربات، مع أولوية للنساء في الأشهر الأخيرة من الحمل ممن يواجهن الولادة في ظروف الحصار والجوع، والثاني هو توسيع الوصول إلى إدارة حالات العنف الجنسي سريرياً ونفسياً وقانونياً، بما يشمل العلاج الوقائي لما بعد التعرض للاغتصاب والدعم النفسي الاجتماعي وخدمات الإحالة الآمنة، أما المحور الثالث فيتمثل في نشر فرق متنقلة ومراكز صديقة للنساء والفتيات قرب مواقع النزوح والقرى المحاصرة، لتقليل مسافة الخطر بين الناجية والخدمة.

وخلال عام 2025 دعم الصندوق تشغيل عشرات المرافق ومراكز الدعم الآمنة للنساء والفتيات، إلى جانب فرق صحية متنقلة تغطي ولايات متعددة، مع توسع تدريجي في مواقع تقديم إدارة حالات العنف الجنسي والعيادات المتنقلة المرتبطة بها.

ويواكب ذلك توزيع واسع لحقائب الكرامة وما تحتاجه الناجيات من مستلزمات أساسية، وتدريب الكوادر على أسس السرية وعدم الوصم وسلامة الناجيات، وهذه البنية انتشرت رغم القيود الأمنية ونقص الوقود والأدوية وإغلاق الطرق، ما يجعل كل شحنة إمدادات وكل فريق ميداني قصة لوجستية معقدة بقدر ما هي إنسانية. 

سرديات الناجيات والاستجابة

يعتمد صندوق الأمم المتحدة للسكان سياسة صارمة تتمحور حول الناجية، ولا يُطلب من المرأة أو الفتاة الإفصاح عن تفاصيل الجريمة أو هوية الجاني كشرط لتلقي الخدمة، إذ يقدَّم العلاج والدعم دون تحقيق أو اشتراط للإبلاغ، وبما يضمن السرية ويقلل إعادة الإيذاء، هذه المقاربة ليست تفصيلاً إجرائياً، بل هي جوهر حماية الناجيات في سياق قد تُعرضهن فيه الشكوى للانتقام أو الوصم الاجتماعي، وهي أيضاً ما يميز استجابة متخصصة عن مجرد إسعاف إسعافي.

على امتداد العامين الماضيين وثّقت منظمات حقوقية دولية منها "هيومن رايتس ووتش" والعفو الدولية" نمطا واسعا من العنف الجنسي في السودان، ولا سيما في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع وحولها، موضحة أن الانتهاكات شملت الاغتصاب الفردي والجماعي والاستعباد الجنسي والزواج القسري، وأنها اتخذت في حالات عدة طابعاً ممنهجاً يستهدف السيطرة على المجتمعات وتهجيرها.

وهذه الشهادات تتقاطع مع نداءات منظمات نسوية سودانية وإقليمية تطالب بحماية المبلغات والشهود وتوسيع قدرات الاستجابة الطبية والقانونية، وتمويل مبادرات تقودها نساء محليات يقدمن خط الدفاع الأول في الأحياء والمعسكرات. 

القانون الدولي ومسؤولية الحماية

يستند عمل الصندوق وشركائه إلى مرجعيات قانونية راسخة، فمجلس الأمن اعترف صراحة بأن العنف الجنسي قد يُستخدم سلاحاً وتكتيكاً حربياً، وطالب بوقفه ومحاسبة مرتكبيه.

وأكد إدماج منظور النوع الاجتماعي في جميع جهود السلم والأمن، كما يدرج النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الاغتصاب والاستعباد الجنسي والحمل القسري وأشكال العنف الجنسي الأخرى ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية متى ارتكبت بشكل واسع أو ممنهج.

يتضاعف أثر العنف الجنسي عندما يتزامن مع الجوع ونقص المياه والمأوى، ويدفع نقص الغذاء والدخل بعض الأسر إلى استراتيجيات نجاة قسرية تعرض النساء والفتيات للاستغلال، بما في ذلك زواج القاصرات أو تبادل الجنس من أجل البقاء، كما أن انهيار التعليم والأمان في طرق جمع الحطب والمياه يزيد من المخاطر اليومية. 

تلاقي أدوار المنظمات

إلى جانب صندوق الأمم المتحدة للسكان، يدفع طيف واسع من الفاعلين باتجاه سد الفجوات حيث تقدم فرق طبية إنسانية تقارير ميدانية عن أنماط الانتهاكات وتستقبل ناجيات في عيادات متنقلة وعلى الحدود، فيما تدير منظمات نسوية محلية مساحات آمنة وخطوطاً ساخنة للإبلاغ والمساندة.

وتعمل كيانات أممية أخرى على إدماج الوقاية والاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي في سلال الإغاثة كافة، من الغذاء إلى المأوى، وتدعم آليات الإحالة المشتركة والتدريب المتخصص للعاملين والعاملات، وفي المحصلة، كلما كان التنسيق وثيقاً والبيانات مشتركة والجغرافيا مغطاة، تقل نسبة السقوط بين الشقوق، وتزداد فرص النجاة والتعافي.

الخلفية التاريخية والمعرفة

تاريخ السودان الحديث مثقل بدورات عنف تركت بصماتها على النساء والفتيات، من حروب دارفور إلى صراعات المركز والأطراف. بمرور الوقت تعلمت الشبكات النسوية وقابلات المجتمع والداعمون الحقوقيون أدوات صمود ومناصرة فعّالة، من التوثيق الآمن إلى إدارة الملاذات المؤقتة والوساطة المجتمعية، هذه المعرفة المحلية، حين تتلاقى مع الخبرات الفنية العالمية للصندوق وشركائه، تنتج نماذج استجابة أكثر ملائمة للسياق وأكثر احتراماً للثقافة المحلية، وأقدر على بناء ثقة الناجيات وأسرهن.

تتصاعد القيود على حركة القوافل والمستجيبين، وتتعرض بعض مواقع النزوح لقصف أو حصار متكرر، ما يضاعف المخاطر على المستفيدات والعاملين، وفي ولايات الغرب على وجه الخصوص، ترافق العنف الجنسي مع عمليات تهجير قسري وانقطاعات طويلة في وصول الإغاثة، وهو ما ينعكس مباشرة على معدلات المضاعفات الصحية وعلى الحاجة لخدمات الطوارئ طويلة الأمد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية