بين التسريبات والمساءلة.. انتهاكات السجون الليبية تثير جدلاً من بوابة "معيتيقة"

بين التسريبات والمساءلة.. انتهاكات السجون الليبية تثير جدلاً من بوابة "معيتيقة"
سجن معيتيقة في طرابلس

 

 

أعاد تداول مقاطع مرئية من داخل سجن معيتيقة في طرابلس، وما رافقها من شهادات عن اكتظاظ قاسٍ واحتجاز مطوّل بلا محاكمة، تسليط الضوء على ملف انتهاكات حقوق المحتجزين في ليبيا، حيث أظهرت المقاطع غرف احتجاز ضيقة وظروفاً وصفت بأنها مهينة، وتحدّث محتجزون عن سنوات خلف القضبان من دون تهمة أو عرض على القضاء، وشكا آخرون من شحّ الطعام وسوء المعاملة.

 وقد تداولت منصات إعلامية وحقوقية هذه المواد على نطاق واسع، ما أثار نقاشاً عاماً حول شرعية الاحتجاز وآليات الرقابة والمحاسبة في مرافق تسيطر عليها تشكيلات مسلّحة خارج الانضباط القضائي الكامل. 

سياق أمني منقسم ومؤسسات عدالة عاجزة

يعمل سجن معيتيقة تحت نفوذ قوة الردع الخاصة في طرابلس، وعلى امتداد السنوات الأخيرة وثّقت منظمات دولية أن الاعتقال التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة ظواهر وانتهاكات حقوقية متكرّرة في ليبيا، تغذيها البنية الأمنية المنقسمة وازدواجية مراكز القوة، فقد أشار تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية عن أوضاع حقوق الإنسان إلى استمرار الاعتقال التعسفي والوفيات في الحجز وغياب المحاكمات العادلة، مع استحضار نتائج بعثة تقصي الحقائق الأممية لعام 2023 التي خلصت إلى وقوع انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية في بعض مرافق الاحتجاز، ومن ضمنها مراكز خاضعة لقوة الردع في معيتيقة.

ومن زاوية أممية، دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في مناسبات متكررة إلى وضع حد للاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري، وآخرها تحذير في مارس 2025 من موجة اعتقالات طالت ناشطين ومواطنين، ما يعكس محدودية سيطرة السلطة القضائية على ممارسات الأجهزة الأمنية والكيانات المسلحة.

من معيتيقة إلى بقية البلاد

على الرغم من تركّز الاهتمام على معيتيقة، تُظهر معطيات أممية وإعلامية أن الانتهاكات في مرافق الاحتجاز ليست حكراً على طرابلس. في يونيو 2025، طالبت الأمم المتحدة بفتح تحقيق محايد عقب العثور على مقابر جماعية في مرافق احتجاز بطرابلس كانت تحت سيطرة جهاز دعم الاستقرار، وأشار مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان إلى أنه ساعد السلطات الليبية بشأن مواقع يُشتبه بأنها شهدت انتهاكات جسيمة، وتبرز هذه الوقائع نمطاً أوسع من الإفلات من العقاب وتهالك منظومات الحبس، وتستدعي مقاربة وطنية شاملة لا تقتصر على سجن بعينه. 

كما رصد مجلس الأمن في تقرير دوري خلال 2025 حالات اعتقال تعسفي وانتهاكات في الشرق الليبي، ما يؤكد أن الأزمة ممتدة جغرافياً وتتجاوز الانقسام السياسي إلى أزمة بنيوية في إنفاذ القانون وحماية الحقوق الأساسية داخل منظومة السجون ومراكز الحجز. 

قانون دولي واضح ومسؤوليات ثقيلة

تقع على ليبيا التزامات صريحة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فهي دولة طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وفي اتفاقية مناهضة التعذيب، كما صادقت على الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، وتحظر هذه الصكوك الاعتقال التعسفي والتعذيب والمعاملة القاسية أو المهينة، وتُلزم سلطات إنفاذ القانون بضمان شروط احتجاز إنسانية ومراجعة قضائية سريعة لأي توقيف، وأي إخلال منهجي بهذه الالتزامات يعرّض الدولة للمساءلة أمام هيئات وأجهزة إقليمية ودولية. 

وتتزايد مؤشرات المساءلة الجنائية الدولية، فقد أشار مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية إلى أوامر قبض صادرة في يناير 2025 ومُعلنة لاحقاً، في سياق التحقيق في جرائم ارتُكبت داخل مرافق احتجاز في طرابلس، وفي يوليو 2025، أعلنت السلطات الألمانية توقيف مشتبه به ليبي على صلة بجرائم ضد الإنسانية مرتبطة بسجن معيتيقة، وهذه التطورات تؤشر إلى أن انتهاكات السجون قد تنتقل من خانة التقارير الحقوقية إلى مسار قضائي عابر للحدود. 

التداعيات الإنسانية الممتدة على السجناء وذويهم

لا تقف آثار الانتهاكات عند حدود جدران السجون في ليبيا، فشهادات المحتجزين وأسرهم تشير إلى فقدان الدخل وانهيار الروابط الأسرية وإصابات جسدية ونفسية طويلة الأمد، كما أن الاكتظاظ، وضعف الرعاية الصحية، وسوء التغذية يُضاعفان المخاطر على الحق في الصحة والحياة، ويخلق ذلك دوامة أوسع من العنف البنيوي داخل المجتمع، مع ما يرافقها من وصم اجتماعي ومعاناة نفسية تمتد لسنوات، وقد وثّق تقرير حديث لمنظمة هيومن رايتس ووتش أن إخفاقات العدالة والإفلات من العقاب في ليبيا يغذيان حلقة الانتهاكات، ويقوّضان أي جهود للانتقال السياسي، وهو ما ينسحب مباشرة على أوضاع المحتجزين وفرص إنصافهم. 

أين تقف الدولة والبعثات الأممية؟

أعلن مسؤولون ليبيون عن مراجعات قضائية لاسترجاع سلطة النيابة والقضاء على مرافق الاحتجاز، فقد كشفت وزارة العدل في يوليو 2025 عن وجود محتجزين في معيتيقة صدرت أوامر قضائية بإطلاق سراحهم ولم تُنفّذ، لكون السجن خارج السيطرة الفعلية للوزارة، ما يعكس فجوة تنفيذية بين قرارات القضاء وممارسات القوة المسيطرة على السجن، وتزامن ذلك مع دعوات أممية إلى تمكين السلطات القضائية من الوصول غير المقيّد لجميع مرافق الاحتجاز، التي يشتبه في وقوع انتهاكات فيها للحفاظ على الأدلة وضمان المحاسبة. 

إلى جانب ذلك، أدانت بعثة الأمم المتحدة موجات الاعتقال الأخيرة ودعت إلى إطلاق سراح المحتجزين تعسفاً وتسجيل جميع أماكن الاحتجاز رسمياً، وتستدعي هذه الدعوات إجراءات حكومة موحّدة تمتلك سلطة فعلية على الأجهزة النظامية والمجموعات المسلحة، بما يتيح إدماج مراكز الاحتجاز ضمن هرم قضائي يخضع للتفتيش الدوري والمعايير الدولية للمعاملة. 

جذور المشكلة

تعود جذور الأزمة إلى مسار ما بعد 2011، حيث توسّعت شبكات الاحتجاز على يد مجموعات مسلحة اندمج بعضها شكلاً في مؤسسات الدولة دون إخضاع فعلي لسلسلة أوامر قضائية موحّدة، ففي طرابلس، ارتبط اسم قوة الردع الخاصة بمعيتيقة بملفات اعتقال تعسفي وسوء معاملة منذ سنوات، وسبق لمنظمات كالعفو الدولية أن وثقت نمطاً من الاحتجاز خارج الأطر القانونية والقيود على الحريات باسم مكافحة الجريمة والإرهاب، فيما أقرّت تقارير أممية متعاقبة بأن الإفلات من العقاب شجّع على تكرار الانتهاكات، ويوضح هذا السياق التاريخي أن التسريبات الأخيرة ليست حادثاً معزولاً، بل حلقة في سلسلة أطول من ممارسات خارجة عن سيادة القانون بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان.

وعلى المستوى المعياري، يفرض العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وضوح الأساس القانوني للاحتجاز وإحالة المحتجز سريعاً إلى سلطة قضائية، كما تلزم اتفاقية مناهضة التعذيب الدولة باتخاذ تدابير فعّالة لمنع التعذيب والتحقيق فيه وملاحقة مرتكبيه، ويفرض الميثاق الإفريقي حماية الكرامة الإنسانية وحظر المعاملة القاسية، بما يعزز حجية هذه الصكوك في مساءلة أي جهة تحت الولاية الليبية تمارس الاحتجاز والمعاملة اللاإنسانية. 

مسارات محتملة للإنصاف والإصلاح

تكشف وقائع معيتيقة عن ثلاث فجوات مركزية وفق المنظمات الحقوقية تتمثل في غياب الحيازة المؤسسية للسجون من يد الدولة، وضعف نفاذ قرارات القضاء، وافتقار آليات الرقابة المستقلة، ومعالجة هذه الفجوات تتطلب حزمة إجراءات متزامنة، تبدأ بإعادة تسجيل جميع مرافق الاحتجاز تحت وزارتي العدل والداخلية حصراً، وتفعيل تفتيش قضائي دوري بمشاركة بعثة الأمم المتحدة وخبراء وطنيين مستقلين، مع ضمان الوصول غير المقيّد للمفوضية السامية لحقوق الإنسان وللمنظمات الحقوقية المحلية، ويستلزم المسار نفسه إنشاء سجل وطني موحّد للمحتجزين يضمن الحق في الاتصال بالأهل والمحامي والمثول السريع أمام القضاء.

على صعيد المساءلة، تشير خطوات مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية إلى أن الجرائم الخطيرة داخل مرافق الاحتجاز قد لا تبقى بلا عقاب، خاصة مع تعزيز حفظ الأدلة وإتاحة الوصول للمواقع المغلقة، كما أن تحركات السلطات القضائية الليبية نحو مراجعة ملفات الاحتجاز وإصدار أوامر إفراج، إذا اقترنت بسلطة تنفيذية فعلية، قد تفتح نافذة لإعادة الاعتبار لضحايا الاعتقال التعسفي والتعذيب، ولا ينفصل هذا المسار عن ضرورة توحيد الحكومة والمؤسسات الأمنية، بما يُنهي ازدواجية القوى المسيطرة على السجون ويفرض معياراً واحداً للمعاملة وفق القانون بحسب منظمة العفو الدولية. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية