"النعاواة".. أصوات نساء الرقة السورية تترجم الحزن إلى مواويل تراثية
"النعاواة".. أصوات نساء الرقة السورية تترجم الحزن إلى مواويل تراثية
في سهول مدينة الرقة السورية وريفها، لا يقتصر التراث على الفرح والأهازيج الشعبية في الأعراس، بل يمتد ليعانق الحزن العميق.. هنا، تتناوب النساء على إنشاد مواويل تسمى "النعاواة"، فن شعبي شفهي ضارب في القدم، يحمل بين كلماته أنين الفقد ووجع الغربة، ويُرتجل من القلب مباشرة بلا سابق إعداد.
النعي أو "النعاواة" ليس شعراً فصيحاً، بل مواويل بالعامية، تتقنها النساء أكثر من غيرهن.. فهنّ الأكثر مواجهة لمشقة الحياة، والأكثر معايشة للفقد، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الثلاثاء.
تقول خالصة الحسن، وهي امرأة أربعينية من ريف الرقة الشمالي: "النعي ترجمة لمشاعر مؤلمة تؤجج نار القلوب التي ابتليت بالحزن، وتحرض الحاضرين على استحضار ذكرياتهم الأليمة لمشاركة ذات المشاعر مع المكلوم".
خالصة فقدت والديها وزوجها منذ أكثر من عشر سنوات.. لم تكن تعرف النعي قبلاً، لكنها اكتشفته مع الفقد.. تقول خالصة: "زوجي برحيله ترك على عاتقي مسؤولية العائلة كلها، وأمي التي كانت تلم شملنا رحلت، فبات البيت خالياً".. في كل مجلس عزاء تحضره، تعود المواويل لتفتح الجروح من جديد.
الرثاء يتجاوز الموت
"النعاواة" لا تقتصر على رثاء الموتى، فهناك مواويل للفقد المرتبط بالسفر، بالنزوح، بالثأر، وحتى بأحداث الحرب السورية التي فرّقت العائلات ودفعت الآلاف إلى النزوح، إنها انعكاس لمجتمع يعيش تقلبات متواصلة، حيث صار الحزن جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية.
يازي العلي (57 عاماً) تحمل ذاكرة مثقلة هي الأخرى، حيث تقول إنها فقدت والديها وعدداً من أقاربها، ونزحت من قريتها في تل أبيض. تصف "النعاواة" بأنها موهبة تُكتسب بالفطرة، من ترديدها في خيم العزاء حتى تحفظها النساء عن ظهر قلب، وبين دموع حاولت حبسها، نعت والدتها:
"فقدت والداي وشقيقي وخالي وخالتي، ونزحت من منزلي.. عمراً كاملاً من التعب عشته، فضلاً عن تفرّق إخوتي بسبب الحرب، هذه الكدمات التي تركها الزمن في قلبي هي ما تدفعني للنعي".
تراث يواجه الاندثار
لكن هذا التراث يواجه خطر النسيان، فبينما كان "النعي" و"الطواويح" و"المواويل" جزءاً من الحياة اليومية، بدأت الأغاني الحديثة تطغى على الأجواء، تاركة التراث عرضة للتراجع بين الأجيال الشابة.
تقول خالصة الحسن: "الأغاني الدارجة حالياً لا تحمل أي معنى، فارغة من المحتوى".
وتصف يازي الحياة بأنها مدرسة قاسية: "كل تجربة تلقن الإنسان درساً، ولكل درس ثمن، وهذا ما لا تُعلمه المدارس".
وهكذا، تظل "النعاواة" أكثر من مجرد مواويل؛ إنها ذاكرة جمعية، وصرخة نساء يقاومن قسوة الحياة بالكلمات، يحفظن التراث بأصواتهن، ويترجمن الحزن إلى فن يعيش رغم كل ما اندثر.











