انتهاكات أقرب إلى العبودية.. القضاء البرازيلي يلزم "فولكس فاجن" بتعويضات عمالية

انتهاكات أقرب إلى العبودية.. القضاء البرازيلي يلزم "فولكس فاجن" بتعويضات عمالية
شركة فولكس فاجن

أصدرت محكمة العمل في البرازيل حكمًا تاريخيًا يلزم شركة فولكس فاجن بدفع تعويضات تصل إلى 165 مليون ريال برازيلي (نحو 30 مليون دولار أمريكي) بسبب تورطها في انتهاكات عمالية جسيمة في مزرعة تابعة لها بولاية بارا في الأمازون، بين عامي 1974 و1986.

الحكم الذي صدر في ساو باولو يوم الجمعة الماضي اعتُبر الأكبر من نوعه في تاريخ البلاد فيما يتعلق بالأضرار المعنوية الجماعية الناتجة عن ظروف عمل وُصفت بأنها أقرب إلى العبودية.

الحكم جاء بعد سنوات من التحقيقات التي شملت شهادات عشرات العمال ووثائق أرشيفية، لتكشف واحدة من أكثر الفصول قتامة في تاريخ علاقة الشركات متعددة الجنسيات بالعمالة المحلية في البرازيل.

ظروف عمل أشبه بالعبودية

وفقًا لوثائق المحكمة وشهادات الناجين، تم توظيف نحو 300 عامل في مزرعة كانت تستخدم لتربية الماشية وقطع الأشجار، العمال عاشوا في مساكن بدائية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، في حين كانوا تحت مراقبة حراس مسلحين، لم يتلقوا أجورًا منتظمة، بل وجدوا أنفسهم في دائرة "عبودية الديون"، حيث يتم تحميلهم تكاليف السكن والطعام والأدوات، ما جعل مغادرتهم المزرعة شبه مستحيلة.

وأكثر من ذلك، لم يحصل المصابون على أي رعاية طبية، حتى في حالات انتشار الملاريا التي كانت شائعة في المنطقة. المحكمة اعتبرت هذه الظروف متطابقة مع التعريف القانوني للعمل بالسخرة، لتثبت بذلك مسؤولية الشركة عن انتهاك ممنهج لحقوق الإنسان.

تعود ملكية المزرعة في تلك الحقبة لشركة فولكس فاجن من خلال فرعها المحلي، حيث استثمرت الشركة الألمانية منذ السبعينيات في الزراعة وتربية الماشية، إذ كان استثمارها ذلك جزءاً من استراتيجيتها للتوسع في السوق البرازيلية. تلك الحقبة شهدت أيضًا دعمًا من الديكتاتورية العسكرية البرازيلية لمشاريع الشركات الكبرى في الأمازون، في إطار سياسات "الاحتلال الاقتصادي" للمنطقة.

في هذا السياق، تم التغاضي عن الانتهاكات العمالية والبيئية، حيث كانت إزالة الغابات جزءًا من المشهد اليومي. منظمات حقوقية في البرازيل رأت أن القضية ضد فولكس فاجن ليست فقط عن الماضي، بل عن ذاكرة اجتماعية لمحاسبة الشركات على دورها في ممارسات الاستغلال أثناء الحكم العسكري.

تداعيات قانونية وإنسانية

القاضي أوتافيو برونو دا سيلفا فيريرا أكد في حكمه أن الأدلة لا تترك مجالًا للشك بشأن مسؤولية فولكس فاجن عن الانتهاكات. وأوضح أن "العمال تعرضوا لظروف مهينة تنتهك جوهر الكرامة الإنسانية".

الحكم لا يقتصر على التعويض المالي، بل يفتح بابًا واسعًا لمطالبات جديدة في البرازيل ضد شركات أخرى قد تكون تورطت في أنماط مشابهة، ورحبت منظمة العمل الدولية بالقرار معتبرة إياه "رسالة قوية ضد الإفلات من العقاب في قضايا العمل الجبري"، في حين طالبت هيومن رايتس ووتش بتوسيع التحقيقات لتشمل شركات أخرى.

من جانبه، أصدر فرع شركة فولكس فاجن في البرازيل بيانًا أعلن فيه استئناف الحكم، مؤكدًا التزامه بمبادئ الكرامة الإنسانية على مدار 72 عامًا من نشاطه في البرازيل. الشركة شددت على أنها "تتبنى مسؤولية اجتماعية صارمة"، غير أن منظمات المجتمع المدني رأت في هذا البيان محاولة لتجنب الاعتراف العلني بالمسؤولية التاريخية.

الأبعاد الدولية للقضية

القضية تأتي في وقت يتزايد فيه الضغط العالمي على الشركات متعددة الجنسيات لاحترام معايير العمل والبيئة في سلسلة إمداداتها. الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، اعتمد في 2023 تشريعًا جديدًا يلزم الشركات الكبيرة بمراقبة ممارساتها في الخارج، بما في ذلك مكافحة العمل الجبري.

في أمريكا اللاتينية طالما شكّلت قضية "العمل القسري" جزءًا من النقاش الحقوقي. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن أكثر من 27 مليون شخص حول العالم ما يزالون يعيشون في ظروف عمل أشبه بالعبودية، منهم 3.4 مليون في أمريكا الجنوبية، البرازيل نفسها سجلت منذ 1995 تحرير أكثر من 60 ألف عامل من مزارع ومشاريع وُصفت بأنها "عمل قسري".

فولكس فاجن التي ارتبط اسمها سابقًا بفضيحة "ديزل غيت" في 2015 حول التلاعب بانبعاثات السيارات، تواجه اليوم تحديًا جديدًا يمس صورتها العالمية، ويرى محللون أن هذه القضية قد تدفع المستثمرين وصناديق الأخلاقيات البيئية والاجتماعية إلى إعادة النظر في تعاملهم مع الشركة، خصوصًا في ظل صعود موجة المطالبة بالشفافية والمحاسبة في سلاسل الإنتاج.

ردود الفعل المحلية والدولية

في البرازيل، رحبت نقابات العمال بالحكم، معتبرة أنه "انتصار تاريخي يعيد الاعتبار لكرامة وحقوق عمال عانوا في صمت"، وشددت منظمة العفو الدولية على ضرورة أن يتجاوز التعويض المالي إلى "التزام ملموس بإصلاح الضرر، وضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات".

على المستوى الدولي، لفتت تقارير الأمم المتحدة إلى أن القضية تعكس فجوة عالمية في آليات الرقابة على الشركات العملاقة، ودعت إلى تعزيز اتفاقية العمل الدولية رقم 29 الخاصة بالعمل الجبري، وإلى تعاون أكبر بين الحكومات والمنظمات لمحاسبة الشركات على ممارساتها خارج حدودها.

أعادت القضية تسليط الضوء على العلاقة المعقدة بين الشركات الكبرى وحقوق العمال، خاصة في المناطق الهشة مثل الأمازون، حيث يتقاطع الاستغلال العمالي مع التدمير البيئي، الخبراء يرون أن هذه المحاكمة قد تشكل نقطة تحول في مسار العدالة الاجتماعية بالبرازيل، ورسالة تحذيرية إلى باقي الشركات بأن الماضي لا يسقط بالتقادم.

حكم التعويض ضد فولكس فاجن ليس مجرد قرار قضائي، بل خطوة تعكس إصرارًا متزايدًا على محاسبة الشركات متعددة الجنسيات عن انتهاكاتها، حتى لو مرّت عليها عقود، القضية أعادت فتح ملفات قديمة، لكنها طرحت في الوقت نفسه أسئلة جديدة عن دور القانون الدولي، وعن قدرة الأنظمة القضائية الوطنية على ملاحقة الشركات الكبرى في سياق العولمة، وبينما تستعد فولكس فاجن للاستئناف، يظل الحكم علامة فارقة في مسار طويل من النضال ضد العمل الجبري، ومن أجل ضمان كرامة الإنسان فوق مصالح رأس المال.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية