ترامب والديمقراطية البرازيلية.. حين يصبح التدخل الأجنبي سلاحاً لتقويض العدالة

ترامب والديمقراطية البرازيلية.. حين يصبح التدخل الأجنبي سلاحاً لتقويض العدالة
البرازيل والولايات المتحدة

في زمن يُفترض فيه أن تكون الديمقراطية حائطًا منيعًا أمام التدخلات الخارجية، نجد أن ممارسات بعض القوى العالمية تُقوّض هذا الأساس ذاته، وفي قلب الأزمة، تقف البرازيل، أكبر ديمقراطية في أمريكا اللاتينية، في مواجهة ضغوط متصاعدة من قبل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ليس عبر القنوات الدبلوماسية، بل عبر خطوات عقابية وصفها مراقبون ومنظمات حقوقية بأنها هجمات مباشرة على سيادة القانون واستقلال القضاء.

ما جرى لم يكن مجرد خلاف سياسي بين دولتين، بل اعتداء ممنهج على المؤسسات الديمقراطية البرازيلية، واستخدام لقوانين حقوق الإنسان بشكل انتقائي ولأهداف سياسية، وفق تقرير نشرته منصة “.wola.org”، وهو ما يهدد مستقبل العدالة ويضعف الثقة العالمية في آليات حماية الحقوق.

إجراءات غير مسبوقة

في أوائل 2025، فرضت إدارة ترامب رسومًا جمركية بنسبة 50% على واردات محددة من البرازيل، مبررة ذلك بأسباب غير تجارية، لكن الإجراء الأشد وقعًا، جاء حين قامت الإدارة بتفعيل قانون ماغنيتسكي –المصمم أصلاً لمعاقبة منتهكي حقوق الإنسان حول العالم– ضد أحد قضاة المحكمة العليا البرازيلية، في خطوة أثارت صدمة داخل البرازيل وخارجها.

قانون ماغنيتسكي، الذي يُفترض أن يكون أداة لحماية الضحايا ومساءلة الجلادين، استُخدم هنا لأهداف سياسية بحتة، وفقًا لتقارير مشتركة صادرة عن منظمة كونكتاس لحقوق الإنسان ومكتب واشنطن لشؤون أمريكا اللاتينية (WOLA)، ما اعتُبر سابقة خطِرة تُظهر إلى أي مدى يمكن تسليح القانون الدولي لخدمة أجندات فردية.

أثارت هذه الهجمات تساؤلات ملحة حول توقيتها، إذ جاءت في لحظة حساسة تشهدها البرازيل، حيث تجري محاكمات واسعة للمتورطين في محاولة الانقلاب التي شهدتها البلاد في يناير 2022، والتي استهدفت إسقاط حكومة منتخبة ديمقراطيًا، وبينما تكافح المؤسسات البرازيلية لاستعادة ثقة الجمهور وتعزيز المساءلة، جاءت هذه الإجراءات الأمريكية بمثابة صفعة مزدوجة لاستقلال القضاء والعدالة الانتقالية.

وفقًا لتحليل حقوقي نشرته هيومن رايتس ووتش، فإن هذا النوع من التدخلات "يُضعف قدرة الدول على معالجة انتهاكاتها الداخلية بطريقة شفافة ومستقلة، ويُعطي غطاءً سياسياً للمتورطين في جرائم ضد الديمقراطية".

تهديد للديمقراطية العالمية

لا يُمكن النظر إلى هذه الإجراءات بمعزل عن السياق العالمي لتراجع الديمقراطيات وصعود الشعبوية، فعندما تُعاقب الولايات المتحدة قاضيًا في المحكمة العليا لدولة ذات سيادة بسبب قرارات قضائية تتعلق بملف الانقلاب، فهي بذلك ترسل رسالة مفادها أن التدخل في الشؤون القضائية الداخلية للدول بات مشروعًا، وأن العدالة يمكن أن تُصبح رهينة الحسابات الجيوسياسية.

وحذّرت منظمة كونكتاس من أن "استهداف القضاة والمحاكم لمجرد قيامهم بواجباتهم يشكّل تقويضًا للسلطة القضائية ويُسهم في شرعنة الاستبداد".

أثارت الخطوات الأمريكية موجة من الاستياء المحلي والدولي، فقد دعت عدة منظمات أممية، أبرزها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، إلى "ضمان احترام استقلال القضاء في جميع الدول دون استثناء، ووقف التلاعب السياسي بالقوانين الدولية".

وطالبت شبكة العدالة العالمية (GJN) بتحقيق مستقل في دوافع إدراج اسم القاضي البرازيلي ضمن عقوبات ماغنيتسكي، مؤكدة أن "القانون يجب أن يُستخدم لحماية الضحايا وليس معاقبة من يُحاكم الجناة".

وفي البرازيل، عبّر مجلس القضاء الأعلى وعدد من منظمات المحامين عن "قلقهم العميق من استخدام الولايات المتحدة سلطاتها خارج الحدود للتأثير على عمليات قضائية مشروعة".

جذور التدخل الخارجي في البرازيل

ليست هذه المرة الأولى التي تُحاط فيها الديمقراطية البرازيلية بتدخلات خارجية، فمنذ الستينيات، لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا في دعم الانقلابات العسكرية، خصوصًا انقلاب 1964 الذي أطاح بحكومة جواو غولارت اليسارية، واستبدلها بنظام عسكري استمر لأكثر من 20 عامًا.

لكن الجديد اليوم أن التدخل لم يعد عسكريًا، بل قانوني واقتصادي، تحت غطاء "حقوق الإنسان" في حين أن الحقيقة تُشير إلى أجندات سياسية واقتصادية تُهدد السلم الداخلي.

ويرى محللون أن هذه الإجراءات ليست فقط تعبيرًا عن دعم الرئيس ترامب لتيارات اليمين المتطرف في أمريكا اللاتينية، بل أيضًا محاولة لخلق واقع سياسي مضطرب يعيق التعاون الإقليمي، ويُسهل السيطرة على مسارات القرار السيادي في دول الجنوب.

من ناحية أخرى، فإن إضعاف المؤسسات القضائية في دول مثل البرازيل يُقلل من فرص المحاسبة، ويُرسّخ الإفلات من العقاب، ما يُضعف حقوق الإنسان على المستوى الإقليمي والدولي.

الدعوة إلى ضوابط 

مع تصاعد الأزمة، ناشدت المنظمات الحقوقية الأمريكية، بما في ذلك الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU)، الكونغرس ومجلس الشيوخ للتحرك من أجل فرض رقابة صارمة على السلطة التنفيذية ومنع استخدام القوانين ذات الطابع الدولي لأغراض داخلية أو سياسات انتقامية ضد الدول الأخرى.

وطالبت منظمات المجتمع المدني بإجراء مراجعة شاملة لتطبيقات قانون ماغنيتسكي لضمان عدم تحوّله إلى أداة ضغط سياسي على القضاة والمجتمعات الديمقراطية حول العالم.

وفي عالم باتت فيه الديمقراطيات هشّة، وحقوق الإنسان سلعة تفاوض، تُمثل التدخلات الخارجية مثل تلك التي قادتها إدارة ترامب تهديدًا وجوديًا للنسيج السياسي والاجتماعي لدول مثل البرازيل.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية