من القوانين إلى الالتزامات.. كيف يحمي إعلان مانيلا حقوق العمالة البحرية عالمياً ؟

من القوانين إلى الالتزامات.. كيف يحمي إعلان مانيلا حقوق العمالة البحرية عالمياً ؟
العمالة البحرية

يشكّل إعلان مانيلا بشأن حقوق الإنسان للبحارة وسلامتهم ورفاههم الصادر مؤخراً في المؤتمر الدولي لعام 2025، محطة مفصلية في مسار النضال من أجل الاعتراف بحقوق الملايين من العاملين في البحار.

 وبحسب ما أورده موقع "humanrightsatsea" في تقرير نشر يوم الثلاثاء، يعكس الإعلان الذي حظي بتأييد عشر دول حتى الآن بينها الفلبين والمملكة المتحدة وألمانيا، وعياً متزايداً بأن البحر ليس مجرد ساحة للنقل والتجارة العالمية، بل فضاء لحقوق الإنسان الأساسية التي كثيراً ما أُهملت في السياسات الدولية.

فطالما عانى البحارة من ظروف عمل شاقة تتسم بالعزلة والخطر، وأظهرت الأزمات العالمية مثل جائحة كوفيد-19 هشاشة أوضاعهم؛ إذ تُرك عشرات الآلاف عالقين في البحر لأشهر طويلة بسبب قيود السفر، ما فجّر نقاشاً دولياً حول حقوقهم في العودة إلى الوطن، والرعاية الصحية، والحماية الاجتماعية، وفي يوليو 2024، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة القرار 56/18، وهو أول قرار أممي يخصص حماية حقوق الإنسان للبحارة، ممهداً الطريق لإعلان مانيلا.

تزايد الضغوط من النقابات البحرية، والمنظمات الحقوقية مثل "حقوق الإنسان في البحر"، وتقارير هيئات أممية أبرزت الانتهاكات التي يتعرض لها البحارة، من العمل القسري وغياب الأجور إلى التهديدات الأمنية في مناطق النزاع، كما دفع التحول الرقمي والانتقال إلى السفن الذكية والحوسبة البحرية إلى بروز قضايا جديدة مثل فقدان الوظائف التقليدية وتفاقم التمييز ضد النساء.

محتوى إعلان مانيلا

يرتكز إعلان مانيلا على ثمانية التزامات عملية: دعم حقوق الإنسان في كل الأوقات، التطبيق الكامل لاتفاقية العمل البحري (MLC)، تحسين التأهب للأزمات، حق البحارة في رفض الإبحار في المناطق عالية الخطورة دون انتقام، تعزيز العناية الواجبة بحقوق الإنسان في الشركات البحرية، تمكين المرأة وتعزيز إدماجها، ضمان انتقال عادل في ظل الرقمنة، وتكثيف التعاون الدولي في التعليم والتدريب البحري، وتعكس هذه الالتزامات رؤية شمولية لا تكتفي بالمعايير الدنيا، بل تسعى إلى وضع حقوق البحارة في صلب السياسات البحرية.

ردود الأفعال الدولية

لقي الإعلان ترحيباً واسعاً، فقد شددت المفوضية السامية لحقوق الإنسان على أنه خطوة تاريخية تعزز حماية فئة "العمال الأساسيين" الذين يضمنون استمرار حركة التجارة العالمية، وأكدت منظمة العمل الدولية أن الإعلان يُكمل اتفاقية العمل البحري ويوفر أرضية لتطوير تشريعات وطنية أقوى. ومن جهتها، دعت هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية إلى متابعة دقيقة لمدى التزام الدول بالإعلان، محذرة من مخاطر أن يبقى حبراً على ورق إذا لم تُقرَن الأقوال بأفعال.

التداعيات الحقوقية

يمثل الإعلان نقلة في الاعتراف بأن حقوق البحارة حقوق غير قابلة للتجزئة، ما يعني تعزيز أدوات الرقابة القانونية على الانتهاكات مثل مصادرة جوازات السفر، الحرمان من الرعاية الطبية، أو ظروف العمل الخطرة، كما يضع التزامات مباشرة على الشركات البحرية لتطبيق العناية الواجبة بحقوق الإنسان ضمن سلاسل التوريد انسجاماً مع المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان.

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية

بحسب المنظمة البحرية الدولية، يشكل البحارة أكثر من 1.9 مليون عامل في أسطول الشحن التجاري العالمي، وأي خلل في أوضاعهم ينعكس مباشرة على حركة التجارة التي تمثل أكثر من 80% من التجارة العالمية. وتحسين ظروف العمل والمعيشة ليس مجرد استحقاق حقوقي، بل عامل استقرار اقتصادي. كما أن تعزيز مشاركة المرأة في القطاع يفتح آفاقاً جديدة لمعالجة النقص في اليد العاملة البحرية الذي يُقدَّر حالياً بأكثر من 90 ألف ضابط بحري حول العالم.

مواقف محلية في الفلبين

الفلبين، باعتبارها أكبر دولة مصدِّرة للعمالة البحرية (أكثر من 25% من البحارة العاملين في الأسطول التجاري العالمي فلبينيون)، لعبت دوراً محورياً في الدفع نحو الإعلان، ويمثل القانون الوطني الجديد "الميثاق الأعظم للبحارة الفلبينيين" لعام 2024 خطوة لتعزيز حماية حقوق البحارة محلياً ودولياً، ويجعل من إعلان مانيلا امتداداً للالتزامات الوطنية على المستوى الدولي.

القانون الدولي والإطار الأممي

إعلان مانيلا لا يخلق التزامات قانونية جديدة، لكنه يستند إلى أدوات ملزمة قائمة مثل اتفاقية العمل البحري 2006، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقيات منظمة العمل الدولية الخاصة بالسلامة البحرية، الجديد فيه أنه يجمع هذه الالتزامات ضمن إطار سياسي وأخلاقي موحد يضع الضغوط على الدول لتبني إصلاحات عملية.

تحديات التطبيق

يبقى التحدي الأساسي متمثلاً عدة عوامل، تشمل الانتقال من إعلان مبدئي إلى واقع ملموس، والفجوات في التفتيش البحري، وضعف أنظمة الشكاوى للبحارة، والتفاوت في قدرات الدول، والمقاومة المحتملة من بعض الشركات لأسباب اقتصادية، وكلها عوامل قد تحد من التطبيق. ومع ذلك، فإن التوافق الدولي الذي ظهر في مانيلا يعزز فرص البناء على هذا الزخم.

إعلان مانيلا ليس نقطة نهاية، بل بداية لمرحلة جديدة في جعل حقوق البحارة جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان العالمية، فبين النصوص القانونية والالتزامات السياسية يظل التحدي الأكبر تحويل هذا الإعلان إلى معايير مُلزمة في الممارسة اليومية على متن السفن والموانئ، وإذا ما تحقق ذلك، فقد يُنظر إلى إعلان مانيلا مستقبلاً بصفته واحداً من أهم المنعطفات في تاريخ حماية العمالة البحرية، على غرار ما مثلته اتفاقية العمل البحري قبل عقدين من الزمن.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية