تقرير أممي يحذر من تداعيات بيئية وصحية تهدد حقوق الإنسان بسبب النفايات الخطرة
تقرير أممي يحذر من تداعيات بيئية وصحية تهدد حقوق الإنسان بسبب النفايات الخطرة
في إطار الدورة الـ60 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المنعقدة في جنيف حتى 8 أكتوبر المقبل، قدم المقرر الخاص المعني بالآثار المترتبة في مجال حقوق الإنسان على الإدارة السليمة بيئيًا للمواد والنفايات الخطرة، ماركوس أوريانا، تقريرًا نوعيًا جديدًا يسلط الضوء على التحديات المتزايدة التي يفرضها التلوث الكيميائي والنفايات الخطرة على حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم.
التقرير الذي اطلع «جسور بوست» على نسخة منه، جاء ليؤكد أن أزمة النفايات السامة لم تعد مسألة بيئية فقط، بل باتت قضية حقوقية بامتياز تمس حق الأفراد في الحياة والصحة والبيئة السليمة.
وأكد التقرير أن الانبعاثات والمواد الكيميائية السامة الناتجة عن الصناعات الثقيلة والتعدين والطاقة والأنشطة الزراعية تسجل معدلات غير مسبوقة، وقد أثبتت البيانات المجمعة أن المجتمعات الأكثر فقرًا وهشاشة هي الأكثر تعرضًا لهذه المخاطر، حيث تفتقر إلى البنية التحتية والقدرات الفنية للتعامل مع المواد السامة أو التخلص منها بطرق آمنة.
وحذر المقرر الخاص من أن التلوث الكيميائي أصبح من أبرز مسببات الأمراض المزمنة في العالم، إذ يرتبط بشكل مباشر بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي والتشوهات الخلقية، ولفت إلى أن الحق في الصحة لا يمكن فصله عن إدارة سليمة للمواد والنفايات الخطرة، لأن الإخفاق في ذلك يؤدي إلى انتهاك منهجي لحقوق الإنسان الأساسية.
العدالة البيئية وحقوق الإنسان
أحد المحاور الرئيسية في التقرير ركز على مفهوم العدالة البيئية، حيث أشار أوريانا إلى أن عبء التلوث لا يُوزع بشكل عادل، حيث تتحمل مجتمعات الجنوب العالمي النصيب الأكبر من النفايات السامة، التي غالبًا ما يتم شحنها من الدول الصناعية الكبرى، هذا الواقع يرسخ ما وصفه التقرير بـ"التمييز البيئي"، إذ يجد ملايين الأشخاص أنفسهم في مواجهة أخطار لم يسهموا في صناعتها.
وأوضح أن مبدأ المساواة وعدم التمييز يجب أن يكون حجر الزاوية في أي استراتيجية دولية للتعامل مع النفايات الخطرة، داعيًا إلى محاسبة الشركات متعددة الجنسيات التي تستغل ضعف التشريعات في الدول النامية لنقل أنشطتها الملوثة أو التخلص من نفاياتها هناك.
أزمات متشابكة
وكشف التقرير أن قضية النفايات السامة ليست معزولة، بل تتقاطع مع أزمات أخرى مثل تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي وندرة المياه، وأكد المقرر الخاص أن هذه الترابطات تجعل من الضروري تبني نهج شامل يضع حقوق الإنسان في قلب أي سياسات بيئية أو اقتصادية.
وأشار إلى أن تأثير النفايات السامة على المياه الجوفية والأنهار له عواقب مباشرة على الأمن الغذائي والصحة العامة، فضلًا عن مساهمته في تفاقم الفقر والهجرة القسرية.
وخصص التقرير مساحة واسعة لرصد التأثيرات غير المتكافئة للتلوث والنفايات الخطرة على الفئات المستضعفة، وخاصة النساء والأطفال، وأكد أن النساء الحوامل يتعرضن بشكل خاص لمخاطر التسمم الكيميائي، الذي يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة أثناء الحمل أو يؤثر على نمو الأجنة. أما الأطفال، فيظلون الفئة الأكثر هشاشة بسبب حساسيتهم البيولوجية وضعف أنظمة المناعة لديهم، ما يجعلهم عرضة لأضرار طويلة الأمد.
وأشار أوريانا إلى أن استمرار هذه الانتهاكات يمثل إخلالًا واضحًا بالتزامات الدول بموجب الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الطفل وحقوق المرأة، داعيًا إلى إدماج منظور النوع الاجتماعي والفئات العمرية في خطط إدارة النفايات والسياسات الصحية.
ثغرات تشريعية وتنفيذية
وانتقد التقرير الثغرات القانونية والتشريعية التي تسمح باستمرار ممارسات التخلص غير الآمن من النفايات، موضحا أن العديد من الدول تفتقر إلى الأطر القانونية الملزمة، أو تعاني من ضعف في قدرات الرقابة والتنفيذ، ما يفتح المجال أمام الانتهاكات دون مساءلة.
وحذر من أن غياب الشفافية والمساءلة في إدارة المواد الكيميائية يضاعف من المخاطر، حيث تُبقي الحكومات أو الشركات المعلومات المتعلقة بالمواد السامة سرية، وهو ما يحرم المجتمعات المحلية من حقها في المعرفة والمشاركة.
التزامات الحكومات والشركات
وأكد المقرر الخاص أن حماية حقوق الإنسان من التلوث والنفايات السامة لا تقع على عاتق الحكومات فقط، بل تشمل أيضًا الشركات والجهات الفاعلة الاقتصادية، مشيرا إلى أن الشركات مطالبة قانونيًا وأخلاقيًا باحترام حقوق الإنسان في كل مراحل سلاسل إنتاجها وتوريدها، وضمان إدارة سليمة للمواد الكيميائية.
وشدد على ضرورة تفعيل مبدأ «المسؤولية الممتدة للمنتج»، بما يضمن أن الشركات تتحمل تكلفة إدارة منتجاتها بعد انتهاء عمرها الافتراضي، بدلًا من تحميل العبء على المجتمعات الفقيرة أو الحكومات الضعيفة.
ورغم الإشادة بمبادرات مثل اتفاقية بازل بشأن التحكم في نقل النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها، واتفاقية ستوكهولم الخاصة بالملوثات العضوية الثابتة، واتفاقية روتردام المتعلقة بالإجراءات المستنيرة للموافقة المسبقة، فإن التقرير شدد على أن هذه الأدوات لا تزال غير كافية.
وأوضح أوريانا أن ضعف التنفيذ، وغياب الإرادة السياسية، وعدم توفير التمويل الكافي، كلها عوامل تعوق تحقيق الأهداف المرجوة.
وأكد أن سد هذه الفجوات يتطلب التزامًا سياسيًا قويًا من الدول الأعضاء، إلى جانب تعزيز التعاون الدولي.
الشفافية وحق المعرفة
من بين أبرز النقاط التي تناولها التقرير مسألة الحق في الحصول على المعلومات، حيث شدد المقرر الخاص على أن المجتمعات المحلية لها الحق في معرفة طبيعة المخاطر التي تواجهها نتيجة وجود مواد سامة أو مواقع ملوثة بالقرب منها.
وأكد أن الشفافية ليست فقط مطلبًا ديمقراطيًا، بل هي شرط أساسي لتمكين الأفراد من حماية أنفسهم والمطالبة بحقوقهم، داعيا الحكومات إلى سن تشريعات تضمن الإفصاح الكامل عن المعلومات البيئية، وإشراك المواطنين في عمليات اتخاذ القرار المتعلقة بإدارة النفايات.
ولم يغفل التقرير مسؤولية المجتمع الدولي في معالجة التفاوتات البنيوية التي تسهم في تفاقم أزمة النفايات السامة. وأشار إلى أن الدول الغنية تتحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية عن الممارسات التي ألحقت أضرارًا جسيمة بالبيئة وصحة ملايين البشر في الجنوب العالمي.
وطالب بتوفير الدعم المالي والتقني للدول النامية، لتمكينها من تطوير أنظمة فعالة لإدارة المواد الكيميائية، وتعزيز قدراتها المؤسسية والرقابية.
كما دعا إلى دمج قضايا التلوث والنفايات الخطرة في الأجندة الدولية للتنمية المستدامة.
توصيات حاسمة
واختتم المقرر الخاص ماركوس أوريانا تقريره بجملة من التوصيات الموجهة إلى الحكومات والشركات والمجتمع الدولي، أبرزها إلغاء القوانين والسياسات التي تسمح باستمرار التخلص غير الآمن من النفايات، وتعزيز الشفافية وضمان مشاركة المجتمعات المحلية في القرارات البيئية، وتمكين الضحايا من الوصول إلى العدالة والتعويضات الفعالة. وتحميل الشركات المسؤولية الكاملة عن دورة حياة منتجاتها، ودعم الدول النامية بالموارد المالية والتقنية اللازمة لإدارة المواد الكيميائية بشكل آمن.
خلص التقرير إلى أن أزمة النفايات الخطرة لم تعد مجرد قضية تقنية أو بيئية، بل هي مسألة ترتبط جوهريًا بحقوق الإنسان. فالسموم التي تنتشر في الهواء والماء والتربة تمثل تهديدًا مباشرًا للحق في الحياة والصحة والبيئة السليمة، ولا يمكن معالجتها إلا من خلال مقاربة حقوقية شاملة تعترف بحقوق جميع الأفراد في الحماية والعدالة.











