تقرير أممي يكشف أزمة عالمية خلف ستار غياب المساواة والعدالة الصحية

تقرير أممي يكشف أزمة عالمية خلف ستار غياب المساواة والعدالة الصحية
مجلس حقوق الإنسان- أرشيف

عقد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة دورته الـ60 في جنيف، والتي تتواصل حتى 8 أكتوبر 2025، وفي هذا السياق قدّمت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان تقريرًا شاملًا يتناول أزمة وفيات الأمهات والأمراض المرتبطة بها، معتمداً مقاربة قائمة على حقوق الإنسان للقضاء على هذه الوفيات التي يمكن الوقاية منها.

التقرير الذي اطلع «جسور بوست» على نسخة منه، جاء ليعيد فتح ملف بالغ الحساسية، إذ يؤكد أن وفاة امرأة خلال الحمل أو الولادة ليست مجرد حادثة طبية، بل انعكاس مباشر لاختلالات بنيوية في العدالة الاجتماعية، والنظم الصحية، والسياسات العامة.

وبحسب التقرير، تُسجل سنويًا مئات الآلاف من الوفيات بين الأمهات حول العالم، معظمها يمكن الوقاية منه بوسائل معروفة وبسيطة، كالرعاية الصحية أثناء الحمل والولادة وما بعد الولادة. 

وتتركز هذه الوفيات بشكل لافت في المناطق ذات الدخل المنخفض والمتوسط، حيث ضعف البنية التحتية الصحية، وغياب الكوادر الطبية المؤهلة، واستمرار التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.

ويشير التقرير إلى أن النظام الصحي في كثير من الدول لا يعكس الأولوية التي تستحقها صحة المرأة، بل إن الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية في معدلات وفيات الأمهات ما زالت واسعة، وتعكس غياب المساواة في الحق الأساسي في الصحة.

الأسباب الجذرية للأزمة

وأوضحت المفوضية أن وفيات الأمهات ليست مجرد نتيجة لمضاعفات طبية، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
فالفقر، وعدم المساواة بين الجنسين، وضعف نظم العدالة الصحية، وغياب الوصول إلى خدمات الصحة الإنجابية، كلها عوامل تُفاقم من احتمالية تعرض النساء للموت أو المرض أثناء الحمل أو الولادة.

ولفت التقرير إلى أن الممارسات التمييزية ضد النساء والفتيات، بما في ذلك الزواج المبكر والحمل القسري، تمثل أرضية خصبة لاستمرار معدلات الوفيات. هذه الانتهاكات تمثل إخلالًا مباشرًا بحقوق الإنسان، وخصوصًا الحق في الحياة، والصحة، وعدم التمييز.

وعلى الرغم من التعهدات الدولية، ومنها أهداف التنمية المستدامة التي وضعت هدفًا طموحًا بتقليص معدلات وفيات الأمهات، أكد التقرير أن التقدم بطيء وغير متكافئ.

فالكثير من الدول، بحسب المفوضية، ما زالت تفتقر إلى سياسات متكاملة تستند إلى نهج قائم على حقوق الإنسان، يضمن وصول جميع النساء، دون تمييز، إلى الرعاية الصحية عالية الجودة.

وأشار التقرير إلى أن بعض الدول تبالغ في الإعلان عن التزاماتها، لكنها لا تخصص الموارد الكافية، أو لا تُفعّل آليات المساءلة لمتابعة التنفيذ، وهو ما يؤدي إلى فجوة خطيرة بين الوعود والواقع الميداني.

العدالة والحق في المساواة

وأكدت المفوضية أن القضاء على وفيات الأمهات أمر يرتبط بالعدالة الاجتماعية والإنصاف الصحي، وليس فقط بالتدخلات الطبية. فالنساء في المناطق المهمشة، والأقليات العرقية والدينية، واللاجئات والمهاجرات، يواجهن معدلات وفيات أعلى بكثير مقارنة بغيرهن، ويرتبط ذلك بحرمانهن من الرعاية الصحية، أو تعرضهن للتمييز في المستشفيات ومراكز الصحة.

وشدد التقرير على أن ضمان المساواة يتطلب مواجهة التمييز البنيوي، وتحويل الرعاية الصحية إلى خدمة شاملة ومتكافئة، تراعي خصوصية النساء وتستجيب لاحتياجاتهن الفعلية.

من زاوية حقوقية، ذكرت المفوضية أن الدول تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية في حماية حياة النساء وضمان صحة الأمهات، لكن التقرير أوضح أن العديد من الحكومات لم تلتزم بعد بتوفير التمويل الكافي أو بإنشاء أنظمة مراقبة فعّالة لرصد معدلات وفيات الأمهات، أو لم تُدمج هذا الملف ضمن أولوياتها الوطنية.

ووصفت المفوضية هذا القصور بأنه شكل من أشكال الإهمال الممنهج، الذي قد يرقى في بعض الحالات إلى مستوى الانتهاكات الحقوقية، خاصة حين تتوافر الإمكانات ولا يُتخذ الإجراء المناسب.

ومن النقاط اللافتة في التقرير أن وفيات الأمهات لا يمكن فصلها عن الانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان. فحين تُحرم امرأة من التعليم، أو من فرص العمل، أو من اتخاذ قرارها بشأن جسدها، فإنها تصبح أكثر عرضة للموت أثناء الولادة. 

وهذا الترابط بين الانتهاكات، بحسب المفوضية، يعكس أن القضية أبعد من كونها مسألة صحية، بل هي قضية حقوقية شاملة تمس جوهر العدالة والمساواة.

أولوية العمل الجماعي

وشدد التقرير على أن مواجهة هذه الأزمة تتطلب جهدًا دوليًا مشتركًا، يربط بين الحكومات، ومنظومة الأمم المتحدة، والمجتمع المدني.
وأكد أن نجاح أي دولة في خفض معدلات وفيات الأمهات يتطلب شراكة حقيقية، تتضمن الاستثمار في النظم الصحية، وتمكين النساء والفتيات، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتفكيك البنى التمييزية التي تضع حياة النساء على المحك.

واختتمت المفوضية تقريرها بسلسلة من التوصيات الموجهة إلى الدول الأعضاء والمجتمع الدولي، مؤكدة أن إنقاذ حياة الأمهات ممكن وواجب إذا ما توافرت الإرادة السياسية والموارد الكافية. ودعت إلى تعزيز النظم الصحية القائمة على العدالة والمساواة، وضمان وصول جميع النساء، دون استثناء، إلى خدمات الرعاية الصحية الإنجابية، بما في ذلك أثناء الحمل والولادة وما بعد الولادة.

كما شددت على ضرورة إدماج حقوق الإنسان في جميع السياسات الصحية، وتعزيز المساءلة الوطنية والدولية عن حالات الوفيات التي كان يمكن الوقاية منها. 

وأكد التقرير أن استمرار هذه الوفيات يمثل وصمة عار على جبين الإنسانية، وأن إنهاءها ليس خيارًا بل التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية