من الجدارة إلى الولاء.. البيت الأبيض يحوّل التمويل العلمي إلى أداة لتقويض حرية التعبير

من الجدارة إلى الولاء.. البيت الأبيض يحوّل التمويل العلمي إلى أداة لتقويض حرية التعبير
جامعة هارفارد الأمريكية

يُطوّر البيت الأبيض خطةً غير مسبوقة تهدف إلى تغيير آلية منح الجامعات الأمريكية التمويل الفيدرالي للأبحاث، وهو نظام اعتمد تاريخيًا على الجدارة العلمية ومراجعات الأقران.

ووفقا لصحيفة "واشنطن بوست"، يُخطّط المسؤولون لمنح ميزة تنافسية للجامعات التي تتعهد علنًا بالالتزام بسياسات وقيم إدارة الرئيس دونالد ترامب، سواء في القبول أو التوظيف أو برامج التنوع والشمول.

يُظهر هذا التحول كيف يُحاول البيت الأبيض نقل المواجهة من عقوبات فردية ضد جامعات بعينها إلى ضغط واسع النطاق يفرض التزامات سياسية وأيديولوجية على قطاعات كاملة من التعليم العالي.

ويقول مسؤول كبير في البيت الأبيض، لواشنطن بوست"، فضّل عدم الكشف عن هويته، إن "الوقت قد حان لإحداث تغيير على مستوى البلاد، وليس على أساس فردي".

ويعني ذلك أنّ الجامعات لن تُمنح التمويل بناءً فقط على جودة البحوث العلمية، بل على استعدادها لإثبات أنّ قرارات القبول تستند حصريًا إلى الجدارة دون النظر إلى العرق أو الإثنية، وأنها تلتزم بقواعد مشددة في التعامل مع الطلاب الأجانب، وأنها تُبرهن على قيمة اقتصادية مباشرة مقابل الرسوم الدراسية.

الاستقلالية الأكاديمية

يحذّر رئيس المجلس الأمريكي للتعليم، تيد ميتشل، من أنّ هذه الخطط تمثل "اعتداءً على استقلالية المؤسسات، والتنوع الأيديولوجي، وحرية التعبير، والحرية الأكاديمية"، ويرى أنّ الأمر لم يعد قائمًا على إثبات الجدارة العلمية، بل على الولاء الأيديولوجي لتيار سياسي محدد، معتبرًا أن "هذا ليس جدارة".

ووفقا لوكالة "أسوشيتد برس" منذ عودة الرئيس ترامب إلى السلطة في يناير، بدأت الإدارة بالفعل سلسلة من التحقيقات وسحبت تمويلات بحثية من جامعات كبرى، بينها كولومبيا، وهارفارد، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس.

جرى استخدام هذه العقوبات للضغط من أجل فرض تنازلات، وهو ما اعتبره البيت الأبيض وسيلة لتطبيق القوانين الفيدرالية ضد التمييز على أساس الجنس أو العرق أو الأصل القومي.

لكن المحاكم واجهت الإدارة بانتكاسات عدة، من بينها خسارة أمام جامعة هارفارد وأخرى في كاليفورنيا، مما دفع المسؤولين للتفكير في خطة شاملة لتغيير قواعد اللعبة.

معايير غامضة

يؤكد المسؤولون في البيت الأبيض أن الجامعات ستظل "نظريًا" مؤهلة للحصول على التمويل، لكن بعضها سيحظى بميزة في حال أثبت التزامه بالقيم التي تراها الإدارة ضرورية.

ويتضمّن ذلك التأكيد على نبذ استخدام العرق في قرارات القبول، حتى وإن حاولت بعض الجامعات الالتفاف عبر وكلاء مثل استهداف المدارس الثانوية ذات الأغلبية من الطلاب السود أو اللاتينيين.

ويضيف المسؤولون أيضًا شرطًا يتعلق بقبول الطلاب الأجانب بهدف ضمان عدم "استيراد التطرف" إلى الجامعات، كما يشمل النظام الجديد تقييم تكاليف التعليم مقابل القيمة الممنوحة للطلاب، حيث انتقد مسؤول في البيت الأبيض الجامعات بوصفها "معاقل للبيروقراطية والهدر"، تنتج "شهادات عديمة الفائدة في تخصصات تافهة" تُثقل الطلاب بالديون.

قيود على حرية التعبير

حذّر عميد كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، إروين تشيميرينسكي، لصحيفة "واشنطن بوست"، من أنّ فرض تمييز سلبي ضد الجامعات التي تؤكد التزامها بالتنوع يُعتبر انتهاكًا للتعديل الأول في الدستور الأمريكي.

وأشار إلى أنّ تغيير معايير التمويل بعيدًا عن الجدارة العلمية إلى الأيديولوجية يُقوّض الحرية الأكاديمية ويُهدد استقلال الجامعات، مؤكدا أنّ الإدارة قد تضع الجامعات في موقف غير مواتٍ إذا أعلنت التزامها بالتنوع، وهو ما يتعارض مع القاعدة الدستورية التي تحظر على الحكومة التمييز بناءً على وجهة نظر.

ويضيف أنّ "الانحراف عن مراجعة الأقران والجدارة نحو الولاء الأيديولوجي سيكون أمرًا مقلقًا للغاية".

كولومبيا تحت الحراسة الأكاديمية

تُبرز وكالة "الأسوشيتد برس" مثالًا صارخًا على هذا النهج في التعامل مع جامعة كولومبيا، حيث فرضت الإدارة شروطًا غير مسبوقة تضمنت وضع قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا تحت "الحراسة الأكاديمية" لمدة خمس سنوات على الأقل، وهو ما يعني وضعه تحت إشراف خارجي مباشر.

تصف المؤرخة وعضو لجنة الحرية الأكاديمية في الجمعية الأمريكية لأساتذة الجامعات، جوان سكوت، هذا الإجراء بأنه "تصعيد غير مسبوق"، مؤكدة أنه "حتى خلال فترة مكارثي لم يحدث مثل هذا التدخل".

ويأتي ذلك في سياق عقوبة سابقة بسحب 400 مليون دولار من تمويلات الجامعة بدعوى "التقاعس في حماية الطلاب اليهود من معاداة السامية".

استهداف الحركات الطلابية

يركّز البيت الأبيض بشكل خاص على كولومبيا بسبب الاحتجاجات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين التي شهدها الحرم الجامعي في الربيع الماضي، حيث اتهم الرئيس ترامب ومسؤولون آخرون المتظاهرين بأنهم "مؤيدون لحماس"، فيما أعلن نائب المدعي العام، تود بلانش، فتح تحقيقات في ما إذا كانت الجامعة قد أخفت طلابًا مطلوبين بسبب مشاركتهم في المظاهرات.

تتضمن المطالب المفروضة على الجامعة حظر ارتداء الأقنعة، اعتماد تعريف جديد لمعاداة السامية، إلغاء إجراءاتها الحالية لتأديب الطلاب، وإصلاح آليات القبول والتجنيد الدولي.

يُحذّر ميتشل، رئيس المجلس الأمريكي للتعليم، من أنّ هذه المطالب "تمحو الحدود بين الاستقلال المؤسسي والسيطرة الفيدرالية".

تصعيد ضد الجامعات

أعلنت إدارة ترامب، مارس الماضي، أنها ستسحب عقودًا بقيمة 400 مليون دولار من جامعة كولومبيا، وتُراجع منحًا أخرى بقيمة 5 مليارات دولار بسبب شكاوى تتعلق بمعاداة السامية. 

ويؤكد مسؤولو الإدارة أنّ هذه الإجراءات جاءت بسبب "تقاعس الجامعة عن مواجهة المضايقات المستمرة للطلاب اليهود".

لكن باحثين وأساتذة، مثل جوزيف هاولي من كولومبيا، يعتبرون أنّ ما يُطلب من الجامعة "غير قابل للتنفيذ وجنون"، مؤكدين أن السماح للحكومة الفيدرالية بإغلاق أو إعادة هيكلة أقسام جامعية يُنهي فكرة الاستقلال الأكاديمي بالكامل.

تصف مؤسسة الحقوق الفردية والتعبير القرار بأنه "مخطط لتعزيز الرقابة" داخل الجامعات، محذّرة من تداعياته على حرية التعبير.

تنازلات تحت الضغط

تحت ضغط هذه السياسات، قدّمت جامعات كبرى تنازلات لاستعادة التمويل، حيث وافقت جامعة بنسلفانيا في يوليو على شروط خاصة بالرياضيين المتحولين جنسيًا مقابل استعادة 175 مليون دولار من التمويل الفيدرالي.

وفي الشهر نفسه، توصلت جامعة كولومبيا إلى تسوية شملت دفع أكثر من 200 مليون دولار وتعيين مراقب مستقل لاستعادة أكثر من مليار دولار من التمويل، رغم تأكيدها أنّ الحكومة لا تملك الحق في إملاء قراراتها الأكاديمية.

كما وافقت جامعة براون على دفع 50 مليون دولار لصالح برامج محلية مقابل استمرار دعمها الفيدرالي.

تسييس العلم

تكشف هذه التطورات عن تحوّل خطير يجعل التمويل العلمي أداة ضغط سياسي وأيديولوجي، حيث يقول مسؤولون في الإدارة إنّ النهج الحالي "فعال للغاية" في دفع الجامعات لتبني سياسات "منطقية"، لكن المنتقدين يرون أنّه ترهيب مباشر يهدد بتحويل الجامعات إلى مؤسسات تابعة للأجندة الحاكمة.

ويُبرز هذا الوضع تعارضًا واضحًا بين ما تعلنه الإدارة من التزام بإنفاذ قوانين الحقوق المدنية، وبين ممارساتها التي تفرض قيودًا على حرية التعبير، والحرية الأكاديمية، وحق الطلاب والأساتذة في بيئة تعليمية مستقلة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية