أزمة هارفارد والبيت الأبيض.. لماذا تستهدف إدارة ترامب استقلال الجامعات الأمريكية؟

أزمة هارفارد والبيت الأبيض.. لماذا تستهدف إدارة ترامب استقلال الجامعات الأمريكية؟
جامعة هارفارد - أرشيف

دخلت العلاقة بين البيت الأبيض وجامعة هارفارد منعطفاً جديداً مع قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضع الجامعة تحت ما وصفته وزارة التعليم يوم الجمعة بـ"المراقبة المالية المشددة"، وفق وكالة رويترز.

وأجبرت هذه الخطوة المؤسسة التعليمية الأعرق في الولايات المتحدة على استخدام مواردها الخاصة لصرف المساعدات الطلابية، قبل أن تتمكن من استرداد الأموال الفيدرالية.

تعود جذور الخلاف إلى تراكم عدة ملفات شائكة، أبرزها موقف جامعة هارفارد من الاحتجاجات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، وسياساتها المتعلقة بالمتحولين جنسياً، والمبادرات المناخية، وبرامج التنوع والمساواة والدمج، لكن قرار وزارة التعليم لم يقتصر على هذه القضايا، بل تجاوزها ليشمل اتهامات تتعلق بالوضع المالي للجامعة، رغم أنها تُعد أغنى مؤسسة تعليمية في البلاد.

دوافع سياسية أم مالية؟

بررت وزارة التعليم قرارها بالقلق من الوضع المالي لجامعة هارفارد، مشيرة إلى إصدار الجامعة سندات وقيامها بعمليات تسريح للموظفين، كما طالبت الوزارة بخطاب اعتماد مالي بقيمة 36 مليون دولار لضمان الوفاء بالالتزامات، في الوقت ذاته، يراجع مكتب الحقوق المدنية بالوزارة ما إذا كانت الجامعة ما تزال تأخذ في الاعتبار العرق في عملية القبول.

غير أن مراقبين يرون أن هذه التبريرات تحمل أبعاداً سياسية واضحة، إذ استخدم ترامب مراراً خطاباً صارماً تجاه الجامعات الكبرى، متهماً إياها بـ"التحيز الليبرالي" وبالسماح بنشاطات لا تتماشى مع سياسات إدارته، وسبق أن هدد بقطع التمويل عن الجامعات التي لا تستجيب لشروطه، وهو ما أعاد للأذهان جدلاً قديماً حول حدود استقلال المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة.

الأزمة مع هارفارد ليست حالة منفردة، بل تأتي في سياق حملة أوسع شملت جامعات أخرى بارزة، ففي يوليو الماضي، أنهت الحكومة تحقيقاتها مع جامعة كولومبيا بعد أن وافقت الأخيرة على دفع 220 مليون دولار، ومع جامعة براون التي التزمت بدفع 50 مليون دولار لدعم القوى العاملة المحلية، كما اقترحت الإدارة تسوية مع جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس مقابل مليار دولار، وهو ما وصفه حاكم كاليفورنيا بأنه "ابتزاز سياسي".

وبالنسبة لهارفارد، تحدث ترامب عن تسوية محتملة قد تصل إلى 500 مليون دولار، هذه الأرقام تعكس حجم الضغوط المالية غير المسبوقة على مؤسسات التعليم العالي، التي باتت مطالبة بالتوفيق بين استقلالها الأكاديمي ومتطلبات السلطة التنفيذية.

ردود الأفعال الحقوقية والدولية

أثارت هذه التطورات قلقاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والأكاديمية، منظمات حقوقية محلية مثل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية عدّت تقييد التمويل الفيدرالي بسبب مواقف سياسية أو احتجاجات طلابية يشكل تهديداً لحرية التعبير في الحرم الجامعي، أما منظمة "هيومن رايتس ووتش" فأكدت أن "الممارسات العقابية ضد الجامعات تهدد استقلال المؤسسات التعليمية وتشجع على الرقابة الذاتية".

على الصعيد الأممي، شدد مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في التعليم على أن الدول ملزمة بموجب القانون الدولي بضمان استقلال المؤسسات التعليمية وحمايتها من التدخلات السياسية المباشرة، وأشار إلى أن تجميد التمويل أو فرض قيود بدوافع سياسية يتعارض مع مبادئ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إحدى النتائج المباشرة للأزمة تتمثل في تهديد المساعدات الطلابية الفيدرالية، إذ يخشى أكثر من ستة آلاف طالب في جامعة هارفارد فقدان إمكانية الوصول إلى الدعم المالي، وهو ما قد يفاقم التفاوت الاجتماعي في مؤسسات النخبة.

كما أن القيود المفروضة على التمويل قد تعرقل مشاريع بحثية كبرى. تشير إحصاءات "المؤسسة الوطنية للعلوم" إلى أن هارفارد حصلت في عام 2022 وحده على ما يزيد على 650 مليون دولار في شكل منح فيدرالية للبحوث، وأي تعطيل لهذا التمويل قد ينعكس سلباً على أبحاث تتعلق بالطب والصحة العامة والذكاء الاصطناعي وتغير المناخ، وهي مجالات ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة والعالم.

توتر بين السلطة والجامعات

ليست هذه المرة الأولى التي تدخل فيها الحكومة الأمريكية في مواجهة مع الجامعات الكبرى، فخلال ستينيات القرن الماضي، واجهت الجامعات موجة ضغوط سياسية بسبب احتجاجات الطلاب ضد حرب فيتنام، وفي ثمانينيات القرن الماضي، تعرضت جامعات لانتقادات من إدارة الرئيس رونالد ريغان بسبب سياساتها المتعلقة بالاستثمار في جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري.

لكن ما يميز الأزمة الحالية هو حجم الأموال المطالب بها والربط المباشر بين التمويل والمواقف السياسية، هذا التصعيد يعكس تحولاً أعمق في العلاقة بين الدولة ومؤسسات التعليم العالي، ويثير مخاوف بشأن مستقبل الحرية الأكاديمية في بلد طالما افتخر بجامعاته المستقلة.

وفق إحصاءات وزارة التعليم الأمريكية، يبلغ إجمالي عدد الطلاب المستفيدين من برامج المساعدات الفيدرالية أكثر من 12 مليون طالب سنوياً، وتشير بيانات "هارفارد كولدج" إلى أن نحو 55 في المئة من طلابها يتلقون شكلاً من أشكال المساعدة المالية، أي قيود على هذه المساعدات ستؤثر بشكل مباشر في فرص التعليم للطلاب من خلفيات متوسطة أو فقيرة، ما يقوض مبدأ تكافؤ الفرص.

في المقابل، تقدر قيمة الوقف المالي لهارفارد بحوالي 50 مليار دولار، ما يجعلها أغنى جامعة في العالم، غير أن الاعتماد على الوقف وحده لا يعوض عن التمويل الفيدرالي المخصص للبحث العلمي والمساعدات، خاصة أن موارد الوقف مقيدة بمصارف محددة وفق شروط المانحين.

السيناريوهات المحتملة

تطرح الأزمة عدة سيناريوهات، منها أن تتوصل هارفارد إلى تسوية مالية مع الحكومة على غرار جامعات أخرى، وهو ما قد يضعف موقفها كونها مؤسسة مستقلة، أو أن تختار المواجهة القانونية، مستندة إلى مبادئ الحرية الأكاديمية وحقوق الطلاب، وهو مسار قد يمتد لسنوات في المحاكم.

وفي جميع الأحوال، فإن استمرار التصعيد سيترك تداعيات طويلة المدى على العلاقة بين السلطة التنفيذية والجامعات، وقد يفتح الباب أمام تدخلات حكومية أوسع في المستقبل.

حملة إدارة ترامب ضد جامعة هارفارد تمثل أكثر من مجرد نزاع مالي؛ إنها تعكس اختباراً جوهرياً لاستقلال الجامعات في الولايات المتحدة، استخدام التمويل الفيدرالي أداة ضغط سياسي يضعف مناخ الحرية الأكاديمية ويهدد مكانة الجامعات الأمريكية التي طالما شكلت نموذجاً عالمياً في البحث والتعليم، وبينما يراقب المجتمع الدولي هذه المواجهة، يبقى مصير آلاف الطلاب والأبحاث العلمية على المحك، في وقت يزداد فيه اعتماد العالم على المعرفة لحل أزماته الكبرى. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية