استطلاع رأي: الإغلاق الحكومي فاقم معاناة الفئات الهشة ويكشف هشاشة البنية الإدارية الأمريكية
استطلاع رأي: الإغلاق الحكومي فاقم معاناة الفئات الهشة ويكشف هشاشة البنية الإدارية الأمريكية
أظهر استطلاع حديث أجرته وكالة أسوشييتد برس ومركز نورك للأبحاث في الشؤون العامة أن ثلث الأميركيين فقط يعبّرون عن رضاهم تجاه طريقة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحكومة، في تراجع حاد عن مستويات الدعم السابقة، يعكس هذا الانخفاض المتسارع مؤشرات واضحة على تصاعد حالة الإحباط داخل الشارع الأمريكي من طريقة تعامل الإدارة مع الإغلاق الحكومي الأخير، الذي دخل التاريخ كأطول إغلاق في تاريخ الولايات المتحدة واستمر 43 يوماً، تاركاً تداعيات إنسانية واقتصادية لا تزال آثارها ممتدة.
الاستطلاع، الذي أُجري بين السادس والعاشر من نوفمبر وشمل أكثر من ألف مشارك من البالغين الأمريكيين، كشف عن تراجع نسبة التأييد من 43% في مارس الماضي إلى 33% فقط في نوفمبر، وهو أدنى مستوى منذ بداية الولاية الثانية للرئيس ترامب، ويشير التقرير إلى أن الاستياء لم يعد مقتصراً على خصومه السياسيين، بل امتد إلى قواعد الحزب الجمهوري ذاته، حيث تراجعت نسبة الرضا داخل الحزب من 81% إلى 68%، فيما هبطت نسبة التأييد بين المستقلين إلى 25%.
الإنهاك السياسي والاجتماعي
يرى محللون أن هذا التراجع الحاد في شعبية الرئيس يعكس حالة من الإنهاك السياسي والاجتماعي الناتجة عن أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد، والذي أدى إلى تعطيل آلاف الخدمات العامة وحرمان مئات الآلاف من الموظفين من رواتبهم لأكثر من شهر ونصف، وبحسب تقديرات مكتب الموازنة في الكونغرس، فقد كلّف الإغلاق الاقتصاد الأمريكي ما بين 7 و16 مليار دولار أسبوعياً، بينما تُقدّر الخسائر الإجمالية بأكثر من 70 مليار دولار مع نهاية فترة التوقف.
لم تقتصر التداعيات على الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتدت إلى مستويات إنسانية غير مسبوقة، إذ اضطر آلاف الموظفين الفيدراليين إلى اللجوء إلى بنوك الطعام والجمعيات الخيرية لتأمين احتياجات أسرهم، في مشهد غير مألوف في بلد يُعد من أغنى دول العالم، كما واجه أكثر من 40 مليون أميركي تأخيرات في الحصول على المساعدات الغذائية الشهرية ضمن برنامج المساعدات الغذائية التكميلية، وهو ما دفع منظمات المجتمع المدني إلى التحذير من أزمة إنسانية صامتة خلف الجدل السياسي في واشنطن.
أزمة كرامة إنسانية
تقول منظمات حقوقية محلية إن الإغلاق الحكومي لم يكن مجرد أزمة سياسية، بل أزمة كرامة إنسانية تمسّ أبسط حقوق المواطنين في الأمن الغذائي والاستقرار المعيشي، وأشار تقرير صادر عن مؤسسة الغذاء الأمريكية إلى أن عدد الطلبات المقدّمة إلى بنوك الطعام ارتفع بنسبة 22% خلال فترة الإغلاق، فيما زادت مكالمات الخطوط الساخنة للدعم الاجتماعي بنسبة 35%.
وفي حين حاول الرئيس ترامب تحميل مسؤولية الأزمة للديمقراطيين، معتبرًا أن رفضهم تمرير مخصصات الجدار الحدودي مع المكسيك هو السبب، يرى مراقبون أن الإغلاق كشف هشاشة منظومة الإدارة العامة واعتمادها المفرط على القرارات السياسية الآنية دون حماية قانونية كافية للموظفين، وقد رصدت منظمات العمال الفيدراليين تأخر صرف الرواتب لأكثر من 670 ألف موظف تم إجبارهم على إجازة غير مدفوعة، بينما واصل 730 ألف آخرون عملهم دون أجر.
من الناحية القانونية، أثارت الأزمة نقاشًا واسعًا حول مدى التزام الحكومة الفيدرالية بمسؤولياتها تجاه العاملين والمواطنين، فبحسب مركز السياسات الثنائية في واشنطن، فإن الإغلاق الطويل شكّل سابقة خطيرة تمس العقد الاجتماعي بين الدولة وموظفيها، حيث جرى تعليق الحقوق الوظيفية دون ضمانات زمنية واضحة لإعادة صرف المستحقات، ما يهدد ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
تداعيات اقتصادية
كما امتدت التأثيرات إلى قطاع النقل الجوي الذي شهد آلاف الإلغاءات للرحلات عبر البلاد، متسببة بخسائر تقدّر بخمسة مليارات دولار وفق جمعية السفر الأمريكية، وأشارت وزارة النقل إلى أن إعادة تشغيل المنظومة الجوية تطلّبت أسبوعًا كاملاً بعد إعادة فتح الحكومة، ما تسبب بتعطيل موسم السفر الشتوي الذي يسبق عطلة عيد الشكر، إحدى أكثر الفترات ازدحاماً في العام.
وتشير تحليلات مراكز الأبحاث الاقتصادية مثل إي واي بارثينون وموديز أناليتيكس إلى أن الأثر الاقتصادي للإغلاق قد يترك بصمة دائمة على معدلات النمو، مقدّرين أن الناتج المحلي الإجمالي فقد ما بين 1 إلى 2 نقطة مئوية خلال الربع الأخير من العام نتيجة الشلل الإداري والمالي.
لكن الأخطر من ذلك، بحسب تقارير مراكز الدراسات الأمريكية، هو الأثر النفسي والاجتماعي على المواطنين الذين فقدوا الثقة في قدرة النظام السياسي على الاستجابة لحاجاتهم. فقد أظهر استطلاع الرأي نفسه أن 54% من الأمريكيين يشعرون بقلق بالغ من تأثير الإغلاق على الاقتصاد وعلى قدرتهم على تلبية احتياجات أسرهم، كما أبدى ثلث المشاركين انعدام ثقتهم في الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، معتبرين أن الخلافات الحزبية باتت تعلو على المصلحة العامة.
أزمات سابقة
تاريخياً، شهدت الولايات المتحدة أكثر من عشرين إغلاقاً حكومياً منذ السبعينيات، لكن لم يسبق لأي منها أن طال بهذا الشكل أو ترك أثراً إنسانياً مماثلاً، ففي إغلاق عام 2019، الذي استمر 35 يوماً، احتاج الموظفون أكثر من شهرين لتلقي رواتبهم المتأخرة بالكامل. اليوم، يخشى كثيرون تكرار السيناريو نفسه رغم تعهد الإدارة بتسريع عمليات الدفع.
المنظمات الدولية، بما في ذلك منظمة العمل الدولية، تابعت التطورات بقلق، وأشارت في تقرير داخلي إلى أن الإغلاق الحكومي الأمريكي يثير تساؤلات حول مدى التزام أكبر اقتصاد في العالم بمبادئ العدالة الاجتماعية وحماية العمال، كما اعتبرت أن الأزمة الحالية تبرز الحاجة إلى إصلاح تشريعي يمنع استخدام الموظفين الحكوميين كأدوات ضغط سياسية في الصراعات الحزبية.
ويرى خبراء القانون الدستوري أن الأزمة الأخيرة قد تفتح الباب أمام مراجعة نظام الإغلاق الحكومي ذاته، الذي يتيح تعليق الأنشطة الفيدرالية عند فشل الكونغرس والرئيس في الاتفاق على الميزانية، فبينما كان الهدف منه في الأصل ضمان الانضباط المالي، تحوّل مع الوقت إلى أداة سياسية تُستخدم للضغط والتنازع بين السلطات.
على الصعيد السياسي الداخلي، شكل تراجع التأييد للرئيس ترامب تحدياً داخل الحزب الجمهوري نفسه، إذ أبدى عدد من قادته في الكونغرس استياءهم من طول الأزمة وما أحدثته من أضرار اقتصادية، محذرين من تداعياتها على فرص الحزب في الانتخابات النصفية المقبلة، وقد عبّر بعض النواب المحافظين علناً عن قلقهم من تآكل الثقة في القيادة السياسية للحزب، وهو أمر نادر في الساحة الجمهورية المعروفة بولائها الصارم للرئيس.
وتبقى التداعيات الإنسانية هي الأكثر وضوحاً في المشهد الأمريكي اليوم. إذ أظهرت مشاهد الطوابير الطويلة أمام مراكز المساعدة الاجتماعية ومطابخ الحساء في واشنطن ونيويورك صوراً غير معتادة في بلد لطالما اعتبر الاستقرار الاقتصادي جزءاً من هويته، هذه الأزمة، كما يرى المراقبون، ليست مجرد اختبار سياسي، بل تجربة عميقة تكشف هشاشة البنية الاجتماعية في مواجهة النزاعات الحزبية.
وفي ضوء ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة، رغم قوتها الاقتصادية والسياسية، تواجه امتحاناً داخلياً صعباً يتمثل في قدرتها على حماية مؤسساتها الديمقراطية من الشلل السياسي، وضمان أن تبقى مصالح المواطنين فوق المساومات الحزبية، وبينما يسعى البيت الأبيض إلى استعادة الثقة تدريجياً، تبقى آثار الإغلاق الطويل ماثلة في ذاكرة الأمريكيين كمؤشر على أزمة حكم لا تقتصر على إدارة واحدة، بل تمتد إلى عمق النظام السياسي الأمريكي ذاته.










