كرامة خلف القضبان.. كيف تعزز منظّمة الأمن والتعاون الأوروبية حماية حقوق المحتجزين؟
كرامة خلف القضبان.. كيف تعزز منظّمة الأمن والتعاون الأوروبية حماية حقوق المحتجزين؟
تواجه أماكن الاحتجاز في دول منطقة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تحديات متكررة تمس كرامة وحياة المحتجزين، من غياب الشفافية إلى انتهاكات ممنهجة في بعض السياقات. وفي هذا الإطار يلعب فرع حقوق الإنسان في المنظمة، وبخاصة مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان (ODIHR) وبرامجها الميدانية، دوراً عملياً ومستمراً في بناء قدرات مؤسسات وطنية ومساندة الآليات الوطنية لزيارة السجون ورصد أوضاع الاحتجاز، انطلاقاً من قناعة مؤسسية بأن الزيارات الوقائية والممنهجة هي إحدى أقوى أدوات الوقاية من التعذيب وسوء المعاملة.
الدورات التدريبية التي نظّمها منسق مشروع المنظمة في أوزبكستان مؤخراً، بالشراكة مع مفوضية حقوق الإنسان المركزية ومراكز تطوير العدالة، عكست هذا التوجّه عملياً عبر تقديم منهجيات حديثة لزيارات الرصد الوقائية وتدريبات عملية على إعداد التقارير وتقييم الأدلة وفق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
منظومة الوقاية الدولية
الخلفية القانونية والتزام الدول بمنظومة الوقاية الدولية يشكلان نقطة مرجعية لا غنى عنها، فالآلية الدولية لمكافحة التعذيب تُعزَّز منذ عقود عبر بروتوكولات مثل البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب (OPCAT) الذي أسس نظاماً مزدوجاً من الزيارات الدولية والآليات الوطنية الوقائية (SPT وNPMs) لضمان فاعلية الرقابة على أماكن الاحتجاز، وتروّج منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لهذه المعايير عبر أدلة منهجية ومبادرات تدريبية بالتعاون مع منظمات متخصِّصة مثل Association for the Prevention of Torture، وتعمل على مواءمة ممارسات المراقبة المحلية مع المبادئ الدولية لضمان أن تكون الزيارات دورية وغير معلنة وأن تتيح للمحتجزين التعبير عن مخاوفهم بأمان وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
ممارسات الرصد التي تروّج لها المنظمة تمضي أبعد من مجرد زيارات إحصائية؛ فهي تضع إطاراً أخلاقياً وتقنياً يتضمن مراعاة الفوارق بين الجنسين، حماية الخصوصية، معايير جمع الأدلة، وإعداد توصيات قابلة للمتابعة، وقد وضعت وثائق وإرشادات ODIHR المشتركة مع خبراء دوليين وسائر الشركاء لتستجيب أيضاً لتحديات استثنائية مثل جائحة كوفيد-19، إذ قدّمت المنظمة دليلاً عملياً لاستمرار أنشطة المراقبة مع مراعاة مبدأ "عدم إلحاق الضرر" وسبل العمل الآمنة خلال الأزمات الصحية، وبهذه الأدوات تنقل منظمة الأمن والتعاون خبرات عملية إلى مؤسسات مثل مكاتب حقوق الإنسان الوطنية والنيابات العامة وهيئات السجون، وتعزّز كذلك دور المجتمع المدني بوصفه مراقباً مستقلاً على الأرض.
التجربة الأوزبكية توضح كيف يمكن للتدريب أن يتحول إلى سياسة ميدانية، فمنذ عام 2006 بنَت المنظمة علاقة طويلة الأمد مع هيئة المظالم الوطنية في أوزبكستان، وبنَت معها سلسلة أنشطة تهدف إلى تطوير قدرات الزيارات الوقائية ومواءمتها مع المعايير الدولية، بما يشمل تدريبات متدرجة لفرق المراقبة وتمارين عملية على كتابة التقارير وإصدار التوصيات، وتتيح مثل هذه الجهود -حين تترافق مع إرادة سياسية والتزام بمتابعة التوصيات- تعزيز آليات المساءلة الداخلية وتقليل مخاطر إساءة المعاملة، لكن التاريخ الميداني يكشف أيضاً أن وجود تدريب ومشورة دولية وحدهما لا يكفيان في ظل غياب ضمانات استقلالية التحقيقات ووجود قنوات شكاوى فعّالة.
في السياقات التي شهدت فيها منظمات حقوقية تقارير عن الاعتقالات السياسية أو التعذيب، مثل تقارير هيومن رايتس ووتش حول غياب رقابة كافية في مراحل سابقة، تبرز الحاجة إلى ربط التدريب بضمانات أوسع للمساءلة.
رد فعل منظمات حقوق الإنسان
يؤكد رد فعل منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية أن نهج الوقاية يتطلب أكثر من زيارات استعراضية، وكذلك مطلوب لتمويل ثابت للآليات الوطنية، حماية حقيقية للمبلّغين والشهود، وتكامل عمل الزيارات مع إصلاحات قانونية وإدارية. ومنظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي تؤكد أن توافر آليات مستقلة للزيارة يمثّل شرطاً مسبقاً لمنع التعذيب، وأن مشاركة المجتمع المدني ووجود آليات واضحة لمتابعة توصيات الجهات الزائرة هما مقياسان لنجاح هذه الآليات، كما تطالب المنظمات الأممية، ومنها مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان ولجنة منع التعذيب، الدول الأطراف بالتصديق على البروتوكول الاختياري وتخصيص موارد كافية لعمل آليات الرقابة الوطنية.
ثمة عقبات عملية وسياسية تواجه جهود منظمة الأمن والتعاون في هذا الميدان، أولها أمن العاملين في الرصد حيث وردت حالات اعتقال ومضايقات لموظفين محليين ودوليين في تقارير إعلامية، ومنها قضايا موظفين يعملون في بعثات رصد تعرضوا للاعتقال في مناطق نزاع، ما يبرز مخاطر تعطيل العمل الميداني وتهديد سلامة المراقبين، وثانياً، يظل التمويل وعدم استمرارية الدعم الدولي معوقين أمام بناء مؤسسات وطنية قوية، فضلاً عن مقاومة بعض الجهات الأمنية لتوسيع صلاحيات الجهات الرقابية أو السماح بالزيارات دون إشعار، وهذه المعوقات تؤكد أن النهج التقني للتدريب يجب أن يقترن بمناصرة سياسية متواصلة.
الأرقام والامتدادات الدولية تقدم مؤشراً على التقدّم والفراغ معاً: البروتوكول الاختياري لمنع التعذيب صادق عليه ما يقارب أربعاً وتسعين دولة حتى الآن، وعدد من هذه الدول أنشأ آليات وطنية للزيارة، لكن الشركات الوطنية للرقابة لا تزال غير مكتملة في العديد من البلدان، وهو ما يحجم فعالية النظام العالمي للوقاية من التعذيب إذا لم تكمل الدول التزاماتها التشريعية والميزانية، ومن هنا يبرز دور المنظمة بوصفها وسيطاً تقنياً وسياسياً يدعم تصميم آليات وطنية متوافقة مع المعايير الدولية ويقدّم برامج تدريب ومناهج عمليّة قابلة للتطبيق محلياً، وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
جهود منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لتعزيز حقوق المحتجزين عبر التدريب وتطوير منهجيات الزيارات الوقائية وإصدار أدلة فنية تشكل لبنة مركزية في منظومة الوقاية من التعذيب وسوء المعاملة، لكن فاعلية هذه الجهود مرهونة بتحويل التوصيات إلى إصلاحات مؤسسية وبتأمين شروط الاستقلال للآليات الوطنية وحمايتها قانونياً وعملياً، فالثمرة المنشودة هي نظام رقابي وطني فعّال قادر على إبقاء "أضواء الشفافية" مضاءة في مرافق الاحتجاز، وحماية كرامة المحتجزين، وضمان محاسبة مرتكبي الانتهاكات بما ينسجم مع الالتزامات الدولية لحقوق الإنسان.