من كابول إلى مدريد.. نساء أفغانستان يحاكمن طالبان أمام المحكمة الشعبية

من كابول إلى مدريد.. نساء أفغانستان يحاكمن طالبان أمام المحكمة الشعبية
المحكمة الشعبية لمحاكمة قادة حركة طالبان في مدريد

في قاعة متواضعة بالعاصمة الإسبانية مدريد، وعلى بُعد آلاف الكيلومترات من كابول، يعلو صوت نساء أفغانيات يروين قصص الحرمان والخوف والصمود، خلال الجلسة الثانية من أعمال المحكمة الشعبية لمحاكمة قادة حركة طالبان الأفغانية، التي خُصصت للاستماع إلى شهادات واتهامات بشأن ما تصفه منظمات حقوقية بـ“القمع المنهجي والممنهج ضد النساء الأفغانيات”.

المحكمة، وإن كانت رمزية، إلا أنها تحمل بعداً أخلاقياً وإنسانياً كبيراً، إذ يسعى منظموها إلى تسليط الضوء على الانتهاكات التي تمارسها طالبان بحق النساء منذ عودتها إلى الحكم في أغسطس 2021، في ظل غياب المساءلة الرسمية أو الدولية الفاعلة.

شهادات من الداخل

في اليوم الثاني من جلسات المحكمة، تقدمت كل من بنفشه يعقوبي وأورزلا نعمت بعرض شهاداتهما أمام هيئة مؤلفة من قضاة رمزيين وشخصيات حقوقية أوروبية، بحسب ما أوردته شبكة "أفغانستان إنترناشيونال".

المدعيتان تحدثتا بلغة تجمع بين الألم والحقائق، مؤكدتين أن طالبان حرمت آلاف النساء من العمل والتعليم والحياة العامة، في سياسة وصفتها يعقوبي بأنها قمع قائم على النوع الاجتماعي.

قالت يعقوبي إن آلاف المعلمات والموظفات في أفغانستان أُجبرن على ترك أعمالهن، فيما لا يُسمح إلا لعدد محدود منهن بالعمل تحت رقابة مشددة ومهينة.

وأضافت أن الرجال الذين يسمحون لزوجاتهم أو زميلاتهم بالعمل يتعرضون للعقاب أيضاً، وهو ما وصفته بأنه نظام رقابة مزدوج يهدف إلى كسر إرادة المرأة والمجتمع معاً.

قمع ممنهج لا مبرر ديني له

في مرافعتها، أكدت يعقوبي أن إقصاء النساء من سوق العمل أصاب عملية إعادة إعمار البلاد بالشلل، وأن هذه الإجراءات تندرج ضمن إطار القمع الممنهج على أساس الجنس في القوانين الدولية.

وشددت على أن طالبان تسعى من خلال سياساتها إلى إبقاء النساء في تبعية تامة للرجال، وتحويلهن إلى كائنات غير مرئية في المجال العام، معتبرة أن هذا الحرمان لا يستند إلى أي أساس ديني، بل هو ظلمٌ واضح وانتهاكٌ لكرامة الإنسان.

كلمات يعقوبي ترافقت مع تصفيق حذر في القاعة، في إشارة إلى التعاطف العميق مع ما وصفته بمعركة البقاء التي تخوضها النساء الأفغانيات في ظل نظام يضيّق عليهن الخناق يوماً بعد يوم.

 أورزلا نعمت: تفكيك المجتمع المدني النسائي

من جانبها، قدّمت الناشطة أورزلا نعمت مرافعة قانونية وحقوقية حادة، قالت فيها إن جميع الأنشطة المدنية والسياسية للنساء توقفت منذ سيطرة طالبان على الحكم، مضيفة أن الحركة “قضت على حرية التعبير، وألغت وجود النساء في الحياة العامة”.

وأوضحت أن تفكيك المؤسسات النسائية وإغلاق المنظمات المدنية يمثل خرقاً صريحاً للقوانين الدولية، وخاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تعد أفغانستان من الدول الموقعة عليها.

وأضافت نعمت أن الإجراءات التي تتخذها حركة طالبان ليست مجرد سياسات مؤقتة، بل “تحرك منظم وممنهج لإقصاء النساء عن المجتمع وتدمير البنية المدنية والسياسية التي بناها الأفغان خلال العقدين الماضيين”.

شهادة من قندهار.. الموت في صمت المستشفيات

في مشهد إنساني مؤثر، أدلت امرأة من ولاية قندهار بشهادتها أمام المحكمة، روت فيها تجربتها مع انهيار الخدمات الصحية بسبب منع النساء من العمل في القطاع الطبي.

قالت إنها قصدت أحد المستشفيات لعلاج أحد أفراد أسرتها، لكنها لم تجد أي طبيبة أو قابلة متخصصة، مشيرة إلى أن معظم الطبيبات والعاملات في المجال الصحي جرى إبعادهن من وظائفهن منذ عودة طالبان.

وأضافت الشاهدة أن الإمكانات الطبية موجودة، لكن طالبان لا تسمح للنساء بالعمل، حتى في أكثر القطاعات حيوية كالرعاية الصحية.

وأكدت أن الحركة فرضت قيوداً جديدة كل يوم، حتى وصل الأمر إلى منع النساء من ممارسة مهنة طب الأسنان.

واختتمت شهادتها بالقول: لقد حُرمنا من حقنا في العلاج والعيش الكريم، ليس لأننا غير مؤهلات، بل لأننا نساء فقط.

المحكمة الشعبية.. بين الرمز والمساءلة

المحكمة التي تُعقد في مدريد ليست هيئة قضائية رسمية، لكنها تمثل منصة رمزية للعدالة الأخلاقية، تستلهم نموذج محاكم الضمير التي استخدمت سابقاً لمحاكمة أنظمة انتهكت حقوق الإنسان دون مساءلة قانونية مباشرة.

ويشارك في جلساتها محامون وخبراء حقوقيون من منظمات أوروبية وأممية، إضافة إلى ناشطات أفغانيات من الشتات.

الهدف، كما يوضح المنظمون، هو توثيق الانتهاكات وتقديمها كملف استشهادي يمكن أن يُستخدم لاحقاً في تحقيقات أو مداولات داخل المحاكم الدولية أو مجلس حقوق الإنسان في جنيف.

ردود الفعل الدولية.. تضامن وتحذيرات

في موازاة انعقاد الجلسات، أعربت منظمات دولية عن دعمها لهذه المبادرة، مؤكدّة أن الانتهاكات في أفغانستان ضد النساء تمثل إحدى أخطر أزمات حقوق الإنسان في العالم.

وقالت هيومن رايتس ووتش إن ما تقوم به طالبان نظام فصل جندري شامل يهدف إلى محو النساء من المجال العام.

أما منظمة العفو الدولية فاعتبرت أن هذه الإجراءات “ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي”، داعية المجتمع الدولي إلى “عدم التطبيع مع نظام يمارس الاضطهاد على أساس الجنس”.

من جانبها، رحّبت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في أفغانستان بالجلسات الجارية في مدريد، مؤكدة أن توثيق الشهادات النسائية خطوة جوهرية في طريق العدالة الانتقالية، ودعت إلى تحرك دولي عاجل لوقف تدهور حقوق المرأة في البلاد.

مجتمع منهك ونساء في المنفى

منذ عودة حركة طالبان إلى الحكم، اضطرت آلاف النساء إلى مغادرة البلاد خوفاً من الاعتقال أو التهميش.

وفي الداخل، لا تزال النساء اللاتي يرفضن القيود يعانين من الإقامة الجبرية الاجتماعية، حيث يُمنعن من السفر أو الدراسة أو حتى زيارة الأسواق دون مرافقة أحد الذكور.

يقول مراقبون إن هذا الواقع أدى إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وإلى أزمة اقتصادية خانقة، بعدما خسرت البلاد نصف طاقتها العاملة النسائية تقريباً، ما أثر سلباً على التعليم والصحة والخدمات.

نظام قمعي تحت غطاء ديني

يرى محللون قانونيون أن قانون طالبان غير المكتوب ضد النساء يمثل أخطر أشكال العنف المؤسسي في القرن الحالي، فهو لا يُطبّق عبر المحاكم الرسمية فقط، بل يُنفذ من خلال شبكة من القرارات الشفوية والفتاوى المحلية، ما يجعل الطعن فيه أو مساءلته أمراً مستحيلاً.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 1.1 مليون فتاة حُرمن من التعليم الثانوي والجامعي، وأن مشاركة النساء في سوق العمل انخفضت إلى أقل من 10%.

ويقول الخبير الحقوقي الإسباني خوسيه مانويل أوليفاريس إن المحكمة الشعبية لا تملك صلاحيات قانونية، لكنها تُعيد للضحايا صوتهم، وتذكر العالم بأن الصمت تواطؤ.

منذ عودة حركة طالبان إلى الحكم في أغسطس 2021، فرضت السلطات قيوداً غير مسبوقة على النساء، شملت إغلاق المدارس الثانوية والجامعات أمام الفتيات، ومنع النساء من العمل في معظم القطاعات، وفرض الحجاب الصارم، وحظر التنقل دون مَحرم.

وتقول الأمم المتحدة إن هذه الإجراءات تمثل اضطهاداً على أساس النوع الاجتماعي قد يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية.

رغم النداءات الدولية والعقوبات المفروضة على قادة طالبان، لا تزال الحركة ترفض تعديل سياساتها، معتبرة أنها تنسجم مع القيم الإسلامية والتقاليد الأفغانية.

في المقابل، تؤكد ناشطات أفغانيات في المنفى أن معركتهن مستمرة من أجل استعادة الحق في التعليم والعمل والكرامة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية