خطوة على طريق العدالة.. بنغلاديش تُحاسب مرتكبي الاختفاء القسري وسط ترحيب أممي
خطوة على طريق العدالة.. بنغلاديش تُحاسب مرتكبي الاختفاء القسري وسط ترحيب أممي
في تطور لافت على صعيد حقوق الإنسان في جنوب آسيا، أعلن المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك أن بنغلاديش شرعت في إجراءات قانونية رسمية بحق متهمين بارتكاب جرائم اختفاء قسري وتعذيب في عهد الحكومة السابقة، وهو ما وصفه بـ“خطوة مهمة نحو المساءلة” للضحايا وعائلاتهم.
بحسب بيان صادر عن مكتب المفوضية، فقد وجّهت المحكمة الدولية للجرائم في بنغلاديش تهماً تحت بند جرائم ضد الإنسانية ضد جهتين معنيتين بـ خلية فرقة العمل المعنية بالاستجواب وخلية الاستجواب المشتركة، كما أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق ضباط عسكريين سابقين، بمن فيهم من استمروا في الخدمة أو كانوا على رأس أجهزة استخباراتية وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
في المقابل، أعلن الجيش البنغالي أنه اعتقل أكثر من اثني عشر ضابطاً بتهمة ارتكاب جرائم خطيرة خلال الإدارة السابقة في عهد حكومة الشيخة حسينة، ودعا المفوض تورك إلى إحالتهم سريعاً إلى محاكم مدنية مختصة لضمان شفافية العدالة وإنفاذ مبادئ الإجراءات القانونية الواجبة، وقال تورك: "هذه هي المرة الأولى التي تُوجَّه فيها اتهامات رسمية بشأن الاختفاء القسري في البلاد، إنها لحظة تاريخية للضحايا".
المضي في الإجراءات
بنغلاديش تمتلك تاريخاً طويلاً من الاتهامات باختفاء قسري وتعذيب في أروقة أجهزة الاستخبارات والقوات الخاصة، لا سيما خلال العقود الأخيرة من حكم رئيسة الوزراء السابقة، الشيخة حسينة، وتتحدث تقارير صحفية وحقوقية عن شبكة من السجون السرية تُعرف بـ"آينا غار" أو “منزل المرايا” تُستخدم لاحتجاز معارضين ونشطاء خارج الأطر القانونية الرسمية، ومن بين هذه الحالات أن وفاة نشطاء أو اختفائهم في ظروف غامضة أصبحت شبه مألوفة، ولم تُكشف غالبًا عن نتائج التحقيقات أو محاكمات عادلة.
إدخال بنغلاديش في مسار المساءلة الآن يعود إلى عدة عوامل تتلاقى في أولاً، التغيير السياسي الذي أعقب احتجاجات جامعية ضخمة أجبرت الحكومة السابقة على التنحي مؤقتًا، الأمر الذي أتاح انفتاحاً مؤقتاً للتحقيق في ممارسات عهدها، وثانيًا، التزام بنغلاديش مؤخرًا باتفاقية الأمم المتحدة لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري في أغسطس 2024، إضافة إلى تعديل قانون المحكمة الجنائية الدولية المحلي لاعتراف رسمي بالجريمة ضمن القانون الداخلي، وثالثًا، ضغط المجتمع المدني داخل بنغلاديش ومنظمات الحقوق الدولية التي كثفت الدعوات لتوثيق الجرائم وتقديم الجناة إلى المحاكمة.
الجرائم المستهدفة
البلاغات الأولية والمحاكم المتخصصة قد وضعت بين يديها قضيّتين أساسيتين تتعلقان بخلية فرقة العمل المعنية بالاستجواب وخلية الاستجواب المشتركة، ومنذ سنوات، وثّقت منظمات حقوقية حالات يُعتقد أنها اختفاءات قسرية لعدد من النشطاء والمنشقين والصحفيين، من بينهم مير أحمد بن قاسم الذي يُعتقد أنه احتُجز في آينا غار لسنوات، ثم أُفرج عنه عام 2024 بعد تغيّر الوضع السياسي، وأيضاً الضابط المتقاعد عبدالله أمان أزمي الذي اختفى في 2016 وظهرت معلومات لاحقة عن احتجازه في السجن السري نفسه.
يشير تقرير بعثة الأمم المتحدة الذي كشفته وسائل إعلام إلى أن ما يزيد عن ألف شخص قُتلوا خلال احتجاجات سياسية عام 2025، وأن نحو 78 بالمئة من هذه الوفيات ناتجة عن إطلاق نار من القوات الأمنية وهذه الأرقام تدعم رأياً مفاده أن نمط القتل والتعذيب والاختفاء قد يكون جزءًا من سياسة مُمنهجة في عهد الحكومة السابقة، وتشكّل جرائم ضد الإنسانية إذا ثبت تنظيمها على نطاق واسع.
بين الترحيب والتحذير
من المنظمات التي رحّبت بهذا المسار الجديد كان مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي دعا السلطات البنغالية لأن تُنفذ “أدق معايير المحاكمة العادلة والإجراءات القانونية الواجبة” وضمان حماية الضحايا والشهود في هذه القضايا الحساسة، كما دعا إلى عدم استخدام عقوبة الإعدام في أي من القضايا المعروضة، مهما كانت التهم.
في بنغلاديش، وقّعت الحكومة المؤقتة على إنشاء لجنة تحقيق للاختفاءات القسرية منذ أغسطس 2024، مكونة من قضاة ونشطاء حقوقيين، للتحقيق في مئات الشكاوى القديمة والحديثة، لكن هناك قلق واسع عند المنظمات الحقوقية من أن هذه اللجنة قد لا تمتلك صلاحيات مالية أو تنفيذية كافية، وأن بعض الملفات قد تُركَّ في طي النسيان إذا لم تُحرَّض الحكومة فعلياً على متابعة المحاكمة.
من جهتها، طالبت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية الحكومة البنغالية بأن تضمن أن المحاكمات ستكون شفافة ومستقلة، وأن أي ضابط يُدان يجب أن يُحاكم في محكمة مدنية وليس تحت مظلة القضاء العسكري.
التحديات الكبرى أمام المساءلة
من الصعوبة بمكان تنظيم محاكمات عادلة في بنغلاديش في ظل تركيبات السلطة الأمنية القوية التي لم تتغير جذريًا، وكثير من المتهمين هم من كبار الضباط السابقين أو الحاليين، ما قد يجعلهم محصنين جزئياً من المحاكمة بسبب نفوذهم داخل المؤسسة العسكرية أو الاستخباراتية.
كما أن الكثير من القضايا تمتد لعقود، ما قد يصعب فيه جمع الأدلة أو شهادات الشهود أو تحديد مواقع الاعتقال السري. الضغوط على الشهود، الخوف من الانتقام، وغياب حماية مضمونة لهم تمثل عائقًا حقيقياً أمام العدالة الفعلية.
إضافة إلى ذلك، فإن بعض القضايا تخضع لتهم مثل الإرهاب أو أن تكون مدرجة في قانون مكافحة الإرهاب، ما قد يخضعها لمعاملات قانونية خاصة أو استثناءات تعيق محاكمات علنية.
من الناحية القانونية الدولية، فإن بنغلاديش بعد التصديق على اتفاقية الاختفاء القسري تُلزم نفسها بأن تجعل هذه الجرائم جريمةً في قانونها الداخلي، وأن تحاكم الجناة دون استثناء، ووفق مبدأ المكافأة في نظام الجرائم الدولية، إذا عجزت الدولة الوطنية عن محاكمة مجرمي هذه الجرائم، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تدخل في الخط كاختيار ثانٍ، حال توافرت شروط الاختصاص.
وبحسب مفوضية حقوق الإنسان يجب إصدار أوامر تحويل الضباط المحتجزين من الحجز العسكري إلى محاكم مدنية فورية، مع ضمان حقوقهم القانونية الكاملة دون تأخير، كما يجب أن تكون الملاحقات مفتوحة للعموم، وتحت إشراف دولي أو مراقبة من جهات مستقلة، بحيث تجرى الجلسات علانية قدر الإمكان، بجانب توفير حماية فعّالة للضحايا والشهود، بحيث لا يتعرضوا لأي انتقام، وأن تُسجل شهاداتهم وأدلتهم بحماية قانونية، على أن ترافق المحاكمات آلية تحقيق شمولية أكبر ترتكز على كشف الحقائق والتعويض للضحايا والعائلات، ليس فقط العقاب، بل الشفاء الوطني من حقبة الانتهاكات، وأخيراً وضع ميزانيات ومصادر قانونية وقضائية كافية لهذه القضية، وألّا تتركها عرضة للانقطاع أو التجاهل بعد البداية.
بينما تحاول بنغلاديش اليوم أن تفتح صفحة جديدة من المساءلة والعدالة، فإن النجاح الحقيقي لهذه المساعي لن يُقاس فقط بصدور الأحكام، بل بمدى التزام النظام القضائي باستدامتها ومراقبتها، وما يطالب به المفوض السامي فولكر تورك من إنصاف الضحايا وحماية الحقوق ليس مجرد طموح بل مضماراً حقيقياً لاختبار ما إذا كانت الدولة قادرة على أن تتحول من قبضة الانتهاك إلى عهد العدالة.