المواطنة الأمريكية على المحك.. كيف دفع المناخ السياسي مغتربين للتخلي عن الجنسية؟
المواطنة الأمريكية على المحك.. كيف دفع المناخ السياسي مغتربين للتخلي عن الجنسية؟
في السنوات الأخيرة، باتت ظاهرة تخلي مواطني الولايات المتحدة المقيمين في الخارج عن جنسيتهم تحظى باهتمام متزايد، ليس فقط لأسباب ضريبية أو إدارية تقليدية، بل لأسباب سياسية باتت تلعب دوراً مركزياً في قرار المغتربين، وفق تحقيق أجرته صحيفة "واشنطن بوست"، فإن عدداً يُراوح بين خمسة آلاف وستة آلاف مواطن أمريكي يتخلى عن جنسيته سنوياً، في حين بدأت السياسة تأخذ مكاناً أكبر في قائمة المبرّرات.
دوافع القرار.. السياسة في الصدارة
منذ عقود، كانت الأعباء الضريبية والبنكية التي تواجه الأمريكيين الخارجين عن وطنهم هي السبب الأبرز للتخلّي عن الجنسية الأمريكية، إذ تُعدّ الولايات المتحدة إحدى دولتين فقط في العالم تفرض ضريبة بحسب الجنسية وليس فقط الإقامة وفق شبكة "سي إن بي سي".
لكن حديث التحقيقات يشير إلى أن المناخ السياسي أصبح مكوناً متزايد الأهمية، فقد أشار استطلاع حديث إلى أن نسبة الأمريكيين المغتربين ممن فكّروا بجدية في التخلي عن الجنسية ارتفعت من نحو 30 في المئة إلى 49 في المئة بين عامي 2024 و2025، وذكرت نسبة 51 في المئة أن أحد الأسباب هو الاستياء من الحكومة الأمريكية أو التوجه السياسي.
أحد المغتربين وصف الأسباب بأنها تراكم من الأحداث الصغيرة يتمثل في: تغيير الخطاب العام، تدهور الخدمات، الانقسام، جعلته يشعر بأنه لم يعد ينتمي بالضرورة إلى بلده الأصلي.
السياق الضريبي والبيروقراطي
يواجه المواطن الأمريكي المقيم في الخارج عقبات متعددة: تقديم إقرارات ضريبية أمريكية سنوية لمصلحة الضرائب الأمريكية (IRS) بغض النظر عن مكان إقامته، بجانب تقديم إقرارات في بلد الإقامة، كما أن القوانين مثل قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA) فرضت على البنوك الأجنبية تقديم تقارير عن حسابات الأمريكيين، ما جعل بعض البنوك ترفض فتح حسابات لهؤلاء أو تفرض عليهم رسوم إضافية، بدورها دفعت بعض المغتربين إلى التخلي عن الجنسية.
وبالإضافة إلى هذه الأسباب، هناك التداخل بين الضغط الضريبي والموقف السياسي من بلدان الإقامة، ففي حالة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، المولود في الولايات المتحدة، تخلّى عن جنسيته الأمريكية عام 2016 بعد أن واجه "فاتورة ضريبية فظيعة" لدى بيع منزله.
الأرقام والمؤشرات
وفقاً لمصادر تحليلية، فإن عدد التخلي عن الجنسية الأمريكية كان أقل من أربعمئة سنوياً قبل عام 2009، ثم بدأ يرتفع تدريجاً، فسجّل رقماً قياسياً بلغ 6 705 في عام 2020، قبل أن يعود إلى مستويات مرتفعة مجدداً في الأعوام التالية.
كما أن الاستطلاع الذي أجرته شركة Greenback أشار إلى أن نحو ثلث الأمريكيين المغتربين كانوا يفكّرون في التخلي حتى عام 2024، في حين أن هذا الرقم اقترب من نصفهم في 2025.
الأبعاد السياسية والإنسانية
ما يجعل الظاهرة محلّ ملاحظة ليس فقط الأرقام بل الخلفية القيمة وراءها، وهي أن جنسية بلد تشكّل، إلى حدّ ما، هوية وانتماء، والتخلّي عنها يعكس إحساساً بعدم الانتماء أو رفضاً لسياسات البلد الأم. أحد المحامين العاملين في لندن صرّح بأن السياسة أصبحت "جزءاً أكبر من المزيج" في قرارات التخلّي عن المواطنة.
من المرصود أيضاً أن الأشخاص الذين يتخلّون عن الجنسية يدركون أن القرار شبه نهائي، فقد يخسرون حقوقاً مثل العمل أو العيش في الولايات المتحدة، أو قد يواجهون صعوبات في الحصول على تأشيرة للعودة.
الأطر القانونية الدولية والحقوقية
تخلي المواطن عن جنسيته يعتبر من الحقوق الأساسية في قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، لكن عندما يتقاطع هذا القرار مع ضغوط ضريبية أو سياسية، يطرح تساؤلات حول ما إذا كان الخيار الحرّ متوافراً فعلياً.
من ناحية أخرى، لا تملك المنظمات الدولية حتى الآن موقفاً بشأن ظاهرة هجرة المواطنة هذه بحدّ ذاتها، لكن منظمات حقوقية تحذّر من أن السياسات الضريبية والمصرفية قد تشكّل حواجز غير مباشرة أمام ممارسة الحقوق المالية أو المصرفية، وعلى سبيل المثال، أكّدت دراسة أن ما يقارب 10 في المئة من المغتربين الأمريكيين واجهوا رفضاً أو صعوبات في فتح حساب مصرفي بسبب قانون FATCA.
تداعيات ومخاطر مستقبلية
أولى المشكلات تكمن في أن التخلّي عن الجنسية الأمريكية ليس قراراً سهلاً؛ فهو يحرم من الحق في العيش والعمل بحرية في الولايات المتحدة، ومن بعض الامتيازات المرتبطة بالمواطنة، وقد يعرّض صاحب القرار لصعوبات قانونية أو ضريبية لاحقة، لا سيما إذا كان ارتبطت به التزامات لم تُسوَ بعد.
أما على المستوى المجتمعي، فإن انفصال المغترب عن وطنه –بدرجة المواطنة– يُعدّ مؤشّراً على أزمة ثقة داخلية أوسع، قد تؤثر في مفهوم الهجرة، التمثيل السياسي، وانخراط الأمريكيين في الخارج في الشأن الوطني، ومن جهة ثالثة، فإنّ ارتفاع النسب قد يشير إلى أن المواطنة الأمريكية تفقد بعضاً من جاذبيتها أو أنها لم تعد تقدّم الحماية أو الامتياز الذي كانت تقدّمه سابقاً في سياق العولمة وتحرّك الأفراد بين الدول.
بحسب تحليل قانوني، فإن عدد الأمريكيين الذين يختارون التخلي عن جنسيّتهم ارتفع بشكل ملحوظ بعد تبنّي قانون FATCA عام 2010 الذي فرض متطلبات إبلاغ صارمة على الحسابات البنكية خارج الولايات المتحدة، كذلك، فإن النموذج الأمريكي الضريبي القائم على الجنسية يفترض التزاماً تقديمياً من كل مواطن يكون خارج البلاد، وهو نمط نادر عالمياً، وقد مثّل أحد المحرّكات الرئيسة لظاهرة التخلي عن الجنسية.
ما بين الضرائب والسياسة
على الرغم من أن الضرائب والبنوك ما تزال تشكّل دوافع قوية للتخلّي عن الجنسية، فإن ما يميّز السياق الراهن هو بروز العنصر السياسي وسيادة الشعور بعدم الانتماء أو رفض البيئة السياسية الأمريكية أو القوانين التي يتعامل معها المغتربون، ومع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم، وتصاعد خطاب الاستقطاب الداخلي، وردود الفعل السلبية من خارج الولايات المتحدة، أصبح القرار ليس مجرد اختيار مالي بل إعلان موقف سياسي أو هوياتي.
من جهة أخرى، يحمل التخلّي عن الجنسية رسالة رمزية بأن المواطن لم يعد يجد نفسه في وطنه أو أن المواطنة لم تعد تؤمّن له الحماية أو الامتيازات التي كان يتوقعها، وهذا الأمر يطرح تساؤلات حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع مواطنيها المقيمين في الخارج وعما إذا كانت سياساتها الضريبية والمصرفية تؤثر فعلياً في الانتماء والمواطنة.
وعلى المستوى الدولي، فإنه في وقت تشدّد فيه الدول على حقوق المواطنين المقيمين في الخارج، فإن تخلّيهم عن الجنسية يُعدّ تحذيراً مبطناً من أن مشاكل الضريبة والمواطنة والسياسة لا تقتصر على داخل الحدود الأمريكية.