محاكمة الولايات المتحدة للمجتمع المدني باسم الأمن.. حين تتحول العدالة إلى أداة سياسية

بعد مقتل المؤثر اليميني تشارلي كيرك

محاكمة الولايات المتحدة للمجتمع المدني باسم الأمن.. حين تتحول العدالة إلى أداة سياسية
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - أرشيف

تُظهر الولايات المتحدة ملامح أزمة حقوقية متصاعدة بعد استغلال الرئيس دونالد ترامب وحلفائه من حركة "ماغا" مقتل المؤثر اليميني تشارلي كيرك لتبرير هجمات متسارعة على خصوم سياسيين ومنظمات مدنية وصحافيين.

ووفقا لصحيفة "واشنطن بوست"، يحذّر باحثون في العلوم السياسية من أن توظيف العنف الفردي كذريعة لحملات سياسية ضد مؤسسات المجتمع المدني يضع الديمقراطية الأمريكية في اختبار حقيقي لقوتها الأخلاقية والقانونية.

ويُحذر الخبراء، وفقًا لما أوردته "الغارديان"، من أن هذه التطورات تُعيد فتح صفحة من "كتاب الاستبداد" الذي يضعف الحريات المدنية ويُحوّل أجهزة الدولة إلى أدوات سياسية في يد السلطة التنفيذية، فيما تؤكد "الإيكونوميست" أن ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة ليس مجرد نزاع سياسي داخلي، بل أزمة تمسّ جوهر الديمقراطية الأمريكية وتهدد الحقوق الأساسية في حرية التعبير والمساءلة واستقلال القضاء.

استغلال المأساة للانتقام

يستخدم الرئيس ترامب، وفقا ل"واشنطن بوست"، حادثة مقتل كيرك لتغذية خطاب الكراهية وشيطنة المعارضين، حيث يدفع باتجاه خلق عدو داخلي يبرر من خلاله استخدام لغة التحريض ضد الليبراليين والمانحين والمؤسسات المدنية.

ويكشف تقرير "الغارديان" أن تصريحات ترامب في مراسم تأبين كيرك عندما قال غاضبًا: “أكره خصومي ولا أتمنى لهم الخير” مثلت لحظة فاصلة دفعت نحو تصعيد مناخ الكراهية السياسي، وأطلقت حملة انتقامية اتخذت طابعًا مؤسسيًا.

وتؤكد الإيكونوميست أن هذا النوع من الخطاب لا يهدد الخصوم السياسيين فقط، بل يضرب ركائز المجتمع المدني الأمريكي الذي يشكل الضامن الأول للحريات العامة، وتشير إلى أن استخدام "العدو الداخلي" كمفهوم سياسي هو تكتيك معروف في الأنظمة غير الديمقراطية لتبرير انتهاك الحقوق وتقييد المجتمع المدني.

حملة ضد المجتمع المدني

يستغل ترامب الحادثة ليشن حملة واسعة ضد الممولين الليبراليين والمنظمات غير الربحية، مستهدفًا على وجه الخصوص الملياردير جورج سوروس ومؤسساته.

وتقول الصحيفة الأمريكية إن وزارة العدل فتحت بالفعل تحقيقات في مؤسسات المجتمع المفتوح التابعة لسوروس، التي موّلت لعقود مبادرات تتعلق بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان والديمقراطية.

وفي المقابل، ردّت مؤسسات سوروس ببيان قالت فيه إن الاتهامات "هجمات ذات دوافع سياسية تهدف لإسكات الرأي المعارض"، مؤكدة أن جميع أنشطتها قانونية وسلمية.

إجراءات تحمل دلالات خطيرة

وتُبرز الغارديان أن هذه الإجراءات تحمل دلالات خطيرة على مستوى الحقوق المدنية، إذ يجري تحويل أدوات إنفاذ القانون إلى وسيلة لتصفية الحسابات السياسية، حيث يؤكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، ستيفن ليفيتسكي، كما أوردت الصحيفة، أن "ترامب يستخدم الصفحة الأولى من قواعد الاستبداد عبر ملاحقة خصومه تحت ذرائع قانونية".

ويضيف أن "الهدف هو ترجيح كفة الميزان السياسي عبر إسكات المجتمع المدني الذي قد يحدّ من سلطته".

ويكشف تقرير "واشنطن بوست" أن ترامب استخدم قانون "ريكو" -وهو قانون اتحادي لمكافحة الابتزاز والجريمة المنظمة- للتحقيق مع سوروس، رغم أن القانون وُضع أصلاً لملاحقة عصابات الجريمة المنظمة.

ويصف المدعي العام الفيدرالي السابق بول روزنزويج هذه الخطوة بأنها "تسليح صريح للقانون ضد الأعداء السياسيين"، ويضيف أن "استغلال هذا القانون بهذه الطريقة يُقوّض مبدأ سيادة القانون ويحوّل العدالة إلى أداة للانتقام".

وتوضح "الإيكونوميست" أن هذا النمط يفتح الباب أمام انهيار الثقة بين المواطنين والدولة، وتشير إلى أن ما بدأ باستهداف سوروس قد يمتد إلى آلاف المنظمات غير الربحية التي تنتقد سياسات ترامب، مما يخلق مناخًا خانقًا لحرية التنظيم وحرية التعبير.

تسييس القضاء واستهداف الخصوم

تؤكد "واشنطن بوست" أن حملة ترامب لم تتوقف عند سوروس، بل شملت ملاحقة مسؤولين سابقين مثل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جيمس كومي والمدعية العامة لنيويورك ليتيتيا جيمس.

ويذكر التقرير أن كومي وُجهت إليه تهم "الكذب على الكونغرس" و"عرقلة العدالة"، بعد أن أجبر ترامب مدعين عامين محترفين على الاستقالة.

وفي حالة المدعية جيمس، يوضح التقرير أنها اتُهمت زورًا بالاحتيال المصرفي رغم أن التحقيقات الأصلية لم تثبت أي دليل ضدها.

استخدام القوة العسكرية

وتحذر "الإيكونوميست" من البعد الأخطر في المشهد، وهو محاولة ترامب إدخال الجيش في السياسة الداخلية، ففي اجتماع مع قادة عسكريين، حذر ترامب من "العدو الداخلي" وأشار إلى إمكانية استخدام الجيش في "تطهير المدن ذات الأغلبية الديمقراطية من الجريمة"، وهي خطوة وصفت بأنها تطبيع لفكرة "عسكرة الحياة المدنية".

في 8 أكتوبر، وفق واشنطن بوست، استعدت قوات الحرس الوطني لدخول شيكاغو رغم اعتراضات السلطات المحلية، ما أثار مخاوف حول احترام مبدأ الفصل بين السلطات المدنية والعسكرية.

وتشير الصحيفة إلى أن مثل هذه الخطوات تُهدد الحق في الأمن المدني وتفتح الباب أمام عسكرة إدارة الشأن الداخلي في انتهاك صريح للمعايير الديمقراطية.

الضرائب كأداة سياسية

تضيف "الإيكونوميست" أن إدارة ترامب استخدمت أيضًا أدوات ضريبية لإخضاع المجتمع المدني، وتوضح أن المذكرة التنفيذية التي وقعها ترامب بعنوان "مكافحة الإرهاب المحلي والعنف السياسي المنظم" فتحت الباب أمام تحقيقات مشتركة بين وزارة العدل ووزارة الخزانة ومصلحة الضرائب ضد منظمات تُتهم زيفًا بدعم "العنف السياسي".

تحول الهيئات الاقتصادية هذه الخطوات إلى أدوات ضغط على المنظمات غير الربحية، ما يهدد استقلالها المالي وحقها في العمل بحرية.

وقد وقعت  أكثر من 3700 منظمة رسالة مفتوحة تنتقد حملة ترامب، ووصفتها بأنها "حملة لترهيب وإسكات المجتمع المدني"، وفي اليوم نفسه، أصدر صندوق المدافعين عن الديمقراطية بيانًا أكد فيه أن ما يحدث "يمثل تهديدًا وجوديًا لحرية التنظيم والحق في المشاركة السياسية".

تُعلّق الغارديان على ذلك بقولها إن الولايات المتحدة -التي لطالما قدّمت نفسها كحامية لحرية المجتمع المدني- تواجه اليوم اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على حماية هذه المبادئ داخل حدودها.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية