"لا ملوك".. من بوسطن إلى سان دييغو الأمريكيون يقولون لا لاستبداد السلطة التنفيذية
"لا ملوك".. من بوسطن إلى سان دييغو الأمريكيون يقولون لا لاستبداد السلطة التنفيذية
في مشهد يعيد إلى الذاكرة جذور الثورة الأمريكية ضد الحكم الملكي البريطاني، أعلن مئات الآلاف من الأمريكيين نزولهم اليوم السبت إلى الشوارع في تظاهرات واسعة تحت شعار "لا ملوك"، احتجاجاً على ما يرونه انحرافاً عن المبادئ الديمقراطية التي تأسست عليها البلاد قبل قرنين ونصف.
وتشير تقديرات إعلامية ومنظمات مدنية إلى أن الاحتجاجات تشمل ما بين ألفين و2500 فعالية في نحو 1700 مدينة أمريكية، لتصبح واحدة من أوسع موجات التعبئة الشعبية منذ مظاهرات "حياة السود مهمة" عام 2020 وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وبدأت حركة "لا ملوك" في يونيو الماضي تعبيراً عن رفض ما يصفه المحتجون بـ"تغول السلطة التنفيذية" خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب، خصوصاً عقب قراراته المتعلقة بإغلاق مؤسسات حكومية وتوسيع حضور القوات الفيدرالية داخل المدن، في وقت يشهد فيه الاقتصاد الأمريكي تباطؤاً حاداً وانقسامات مجتمعية غير مسبوقة.
ويرى المنظمون أن هذه الإجراءات تمثل تهديداً لمبدأ الفصل بين السلطات، وتفتح الباب أمام "رئاسة سلطوية" تتجاوز صلاحياتها الدستورية، في حين تربط مجموعات حقوقية بين سياسات ترامب وموجة عالمية من صعود الشعبوية والتطرف السياسي.
الحق في الاحتجاج
تأتي هذه التظاهرات بعد سلسلة من الأحكام القضائية التي اعتُبرت نصراً للحريات المدنية في مواجهة النزعة العسكرية داخل المدن، فقد أصدرت محاكم فدرالية في كل من أوريغون وواشنطن أحكاماً تقيد استخدام الحرس الوطني في ضبط الاحتجاجات المدنية، مؤكدة أن التظاهر السياسي لا يرقى إلى مستوى "التمرد" الذي يبرر تدخل القوات المسلحة.
وفي حكم بارز، رأت محكمة الاستئناف التاسعة أن "نشر قوات فيدرالية مجهولة الهوية في المدن يتعارض مع مبدأ الشفافية والمساءلة الذي يضمنه الدستور"، ما دفع العديد من الولايات إلى المطالبة بإصلاحات تشريعية تنظم العلاقة بين الأمن الفيدرالي والشرطة المحلية.
هذه الأحكام منحت الحراك زخماً قانونياً، إذ اعتبرها المحتجون حماية دستورية لحق التعبير السلمي، في مواجهة ما يرونه عسكرة للحياة العامة وتقييداً لحرية التظاهر.
الأبعاد الإنسانية للاحتجاجات
ورغم الطابع السياسي للحراك، فإن الرسالة الإنسانية تتصدر مشهد التظاهرات، فالمشاركون يرفعون لافتات تدعو إلى "الحرية دون خوف" و"لا ملوك فوق الشعب"، في استعادة رمزية لشعار الثورة الأمريكية ضد التاج البريطاني.
ويشارك في تنظيم الفعاليات أكثر من 200 منظمة مدنية وحقوقية، منها "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" و"بابليك سيتيزن" و"تحالف النساء من أجل العدالة"، بالإضافة إلى نقابات عمالية وحركات طلابية.
وبحسب منظمة بابليك سيتيزن، فإن "المعركة اليوم ليست بين أحزاب، بل بين فكرة الحرية ومفهوم السيطرة"، مؤكدة أن المحتجين "يرفضون الخوف الذي يسعى البعض لزرعه في المجتمع من أجل إسكات المعارضة".
من جانبها، شددت الشبكة الوطنية لحقوق المهاجرين على أن الاحتجاجات تسلط الضوء على ما وصفته بـ"الانتهاكات المنهجية" في سياسات الترحيل والمداهمات التي شهدتها السنوات الماضية، مشيرة إلى أن آلاف العائلات ما زالت تعاني آثارها النفسية والاجتماعية.
الخلاف السياسي يشتد
في المقابل، يصف حلفاء الرئيس ترامب الحراك بأنه جزء من "مؤامرة يسارية" تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي وتشويه سمعة الإدارة السابقة، وذهب بعض المسؤولين الجمهوريين إلى حد اتهام حركة "أنتيفا" المناهضة للفاشية بالوقوف وراء تنظيم التظاهرات، في حين أعلن حاكم ولاية تكساس جريج أبوت أنه سيرسل الحرس الوطني إلى أوستن "لضمان الأمن العام"، وهو قرار قوبل بانتقادات حادة من منظمات حقوق الإنسان.
السيناتور الديمقراطي تشاك شومر دعا إلى "ضبط النفس وحماية حق المواطنين في التظاهر"، مؤكداً أن اللجوء إلى العنف أو تكميم الأفواه "ليس من قيم الجمهورية الأمريكية".
أما السيناتور بيرني ساندرز فصرح بأن "الاحتجاجات تعكس غضب أمة تخشى أن يتحول رئيسها إلى ملك غير متوج".
القانون الدولي وحق التجمع
تتابع المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الوضع بقلق، إذ أعربت عن "ضرورة احترام الولايات المتحدة لالتزاماتها الدولية بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يضمن حرية التجمع السلمي وعدم استخدام القوة المفرطة".
وقالت المتحدثة باسم المفوضية في بيان إن "الولايات المتحدة، بصفتها من أقدم الديمقراطيات في العالم، مطالبة بإظهار التزامها العملي بحقوق الإنسان وليس فقط الخطابي"، داعية السلطات إلى التحقيق في أي تجاوزات محتملة من قبل الأجهزة الأمنية.
كما أكدت منظمة العفو الدولية أن التظاهرات الأخيرة تمثل "اختباراً لقدرة النظام الأمريكي على استيعاب الاحتجاج السياسي دون انزلاق نحو القمع"، مشيرة إلى أن التعددية وحرية التعبير هما جوهر الديمقراطية التي تفاخر بها البلاد.
تاريخ طويل من الاحتجاج
تاريخياً، شكلت الاحتجاجات جزءاً أصيلاً من الحياة السياسية الأمريكية، من مسيرات الحقوق المدنية في الستينيات إلى مظاهرات حرب العراق وموجة "احتلوا وول ستريت".
لكن مراقبين يرون أن ما يميز حركة "لا ملوك" هو طابعها الدستوري الصريح، إذ تستند إلى فلسفة الآباء المؤسسين الذين رفضوا فكرة السلطة المطلقة، ففي إعلان الاستقلال عام 1776، وردت عبارة "لا ملوك بعد اليوم" رمزاً للتحرر من الاستبداد الملكي، وهي العبارة ذاتها التي يرفعها المحتجون اليوم في مواجهة ما يعتبرونه استبداداً سياسياً معاصراً.
ويقول مؤرخون إن هذه العودة إلى رموز التأسيس ليست مصادفة، بل انعكاس لأزمة ثقة متنامية في النظام السياسي، حيث تظهر استطلاعات الرأي أن أكثر من 62 في المئة من الأمريكيين يعتقدون أن "الديمقراطية مهددة"، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة غالوب في أكتوبر 2024.
إلى جانب المبررات الحقوقية، تتقاطع الأزمة مع تدهور اقتصادي وأزمة مالية تترافق مع الإغلاق الحكومي تلقى بظلالها على ملايين الأمريكيين، فقد أظهرت بيانات وزارة العمل أن معدلات الفقر ارتفعت إلى 13.5 في المئة خلال العام الماضي، في حين ارتفعت أسعار الغذاء والسكن بنحو 22 في المئة منذ عام 2022.
ويرى خبراء أن هذه الأوضاع خلقت أرضية خصبة للاحتجاج، خصوصاً في المدن الصناعية والولايات الجنوبية التي تشهد فجوات اجتماعية متزايدة، ما جعل الدعوات إلى مقاومة "الاستبداد السياسي والاقتصادي" تلقى صدى واسعاً بين الطبقات الوسطى والعمالية.
موقف القضاء من السلطة
القضاء الأمريكي وجد نفسه في صلب الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، خاصة بعد أن تجاهلت إدارة ترامب عدة أحكام صادرة عن محاكم فدرالية تتعلق بالهجرة وحقوق المتظاهرين.
وفي حكم أصدرته المحكمة العليا في يونيو 2024، أكدت الهيئة أن "السلطة التنفيذية ليست فوق القانون"، مشددة على ضرورة التزام الرئاسة بقرارات القضاء وعدم استخدام القوة الفدرالية دون تفويض واضح من الكونغرس.
واعتبرت منظمات قانونية هذا الحكم "انتصاراً للميزان الدستوري"، حيث وصفه اتحاد المحامين الأمريكي بأنه "إعادة تثبيت لمبدأ سيادة القانون في وجه نزعة التفرد بالسلطة".
إلى أين تتجه أمريكا؟
يقول باحثون في الشأن الأمريكي إن احتجاجات "لا ملوك" قد تشكل لحظة فاصلة في الوعي الديمقراطي الأمريكي، سواء من حيث إعادة تعريف حدود السلطة أو استعادة قيم المشاركة السياسية.
لكنهم يحذرون من أن استمرار الاستقطاب الحاد بين أنصار ترامب ومعارضيه قد يؤدي إلى تصعيد جديد في الشارع، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقبلة وما يصاحبها من توترات حول نزاهة المؤسسات الانتخابية.
ويشير تقرير صادر عن "مركز بيو للأبحاث" إلى أن 71 في المئة من الأمريكيين يعتقدون أن الخطاب السياسي في البلاد أصبح أكثر عدوانية من أي وقت مضى، في حين يعبر 58 في المئة عن خشيتهم من أن تنزلق البلاد إلى "عنف سياسي منظم" إذا لم تُتخذ إجراءات للتهدئة.
مواجهة نزعة الملك
في نهاية المطاف، تعيد حركة "لا ملوك" إلى السطح سؤالاً مركزياً في التجربة الأمريكية: هل يمكن للديمقراطية أن تصمد أمام نزعة الفرد المطلق في زمن الأزمات؟
المحتجون يجيبون من الشوارع بأنه لا أحد فوق الدستور، وأن "الرئاسة ليست عرشاً"، في حين يراهن المراقبون على أن مؤسسات الدولة ستظل قادرة على امتصاص الصدمات والحفاظ على توازنها التاريخي بين السلطة والحرية.
وبينما تملأ اللافتات شوارع واشنطن ونيويورك وشيكاغو بشعار "أمريكا بلا ملوك"، يدرك الأمريكيون أن المعركة الحقيقية ليست فقط ضد شخص أو إدارة، بل من أجل بقاء الفكرة نفسها أن السلطة في هذه البلاد تبدأ وتنتهي عند الشعب.