حقوق الإنسان على حافة الانهيار.. تخفيضات في ميزانية الأمم المتحدة تكبّل الحماية الدولية
حقوق الإنسان على حافة الانهيار.. تخفيضات في ميزانية الأمم المتحدة تكبّل الحماية الدولية
تعاني أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان صدمة مالية عميقة تهدّد وجودها ووظائفها الأساسية، في وقت تشهد فيه المجتمعات الدولية انتهاكات جسيمة تتطلب مراصد وتحقيقات مستقلة، وتشير جهود التقشف التي أطلقتها المنظمة لإعادة التوازن المالي إلى أن موازنة حقوق الإنسان تحملت على نحو غير متكافئ أزمة التخفيضات في التمويل، مما أدّى إلى تهدّم القدرات والبرامج.
في تقرير حديث، حذرت منظمة الخدمة الدولية لحقوق الإنسان (ISHR)، بحسب فرانس برس، من أن توقف الولايات المتحدة عن دفع مستحقاتها، إلى جانب سياسات الصين وروسيا في تقليص الدعم لهيئات أممية، قد يشكّل "خطراً وجودياً" لمنظومة حقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة، ويصف التقرير كيف أن أعمال التحقيق والاستقصاء التي كانت تُعدّ عماد الحماية الدولية باتت مهددة بالتجميد أو الإلغاء بسبب النقص المالي.
في جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، تأخّر بدء التحقيق في جرائم حرب كان مجلس حقوق الإنسان قد أمر به فعلاً، بسبب انعدام التمويل الكافي، مما يشي بخطر أن تطيح الأزمة المالية بعدد من التحقيقات الأخرى في دول متعددة.
الأرقام لا تكذب
تواجه المفوضية السامية لحقوق الإنسان والهيئات المتصلة بها شحّاً مباشراً في الموارد، ووفق تحليلات منظمة ISHR، يقترح الاقتراح الذي أُدرج في إطار مبادرة الإصلاح الداخلي للأمم المتحدة المعروفة بـ"UN80" أن تُطبق تخفيضات على الميزانيات بمقدار 15 في المئة على ركيزة حقوق الإنسان، وهي نسبة أعلى مما طُبّق على ركائز السلام والأمن والتنمية، هذه النسبة قد تكون قاتلة في منظومة تكافُئتها ضعيفة أصلاً.
في الواقع، تلقّت المفوضية فقط 73 في المئة من المساهمات التي وعدت بها في موازنة 2025 العادية، أي إن نحو 67 مليون دولار تأخّرت عن الدفع، وقد عبّرت الناطقة باسمها، ليز ثروسيل، عن أن هذا العجز الضخم يعني "حماية أقل للضحايا وعدم قدرة على تأمين العدالة لبعضهم".
وفي آلية التحقيق المستقلة الخاصة ببورما، أفادت نائبة مديرها بأن التخفيضات قد تؤدي إلى الاستغناء عن خدمات 27 من الموظفين، أي ثلث طاقم جمع الأدلة وجهاديتها.
كما تشير مصادر وتقارير عديدة إلى أن أعمال التحقيق في أوضاع النزاع في السودان، وقطاع غزة، وأوكرانيا، أصبحت تعمل ما بين 30 و60 في المئة من طاقتها المعتادة بسبب النقص المالي في مكتب المفوضية ومجلس حقوق الإنسان.
علاوة على ذلك، مشروع الاقتراح المالي الجديد الذي يعكس عمليات الإصلاح لمبادرة UN80 يظهر أن حقوق الإنسان تُقصى بشكل غير متوازن من التخفيضات، رغم أن هذه الركيزة تتلقّى أقل من واحد في المئة من إجمالي موازنة الأمم المتحدة العملية.
توقف التمويل الأمريكي
الولايات المتحدة لطالما كانت أكبر مساهم في ميزانية الأمم المتحدة، لكنها علّقت دفعاتها لفترات ممتدة، لا سيما منذ عودة ترامب إلى السلطة، وبحسب بيانات منظمة ISHR، فإن واشنطن كانت مدينة للأمم المتحدة بمبلغ قدره نحو 1.5 مليار دولار حتى 30 سبتمبر، من بينها 300 مليون متأخرة عن سنوات سابقة.
هذا التعطّل في التمويل يضاعف أزمة السيولة التي كانت قائمة أصلا، في ظل تراجع المساهمات من كثير من الدول الأخرى.
كما أن الصين التي تُعدّ ثاني أكبر مساهم، دفعت مستحقاتها متأخرة بشدة، وأخّرت دفعة العام الماضي إلى 27 ديسمبر، أي بعدما انتهى العام المالي للمنظمة، ما اضطرها إلى إعادة المبالغ غير المنفقة.
وتُشير تقارير إلى أن الصين وروسيا استغلت مفاوضات الميزانية في اللجنة الخامسة للجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاولة تقليص تمويل برامج حقوق الإنسان أو استهداف هيئات تحقق في تجاوزات، وقد قدموا مقترحات تصف بأنها تستهدف شلّ عمل المفوضية، استجابة لمساندتهم لحلفاء سياسيين.
وكذلك، في السياقات الموازية، تحاول بعض الدول استغلال الأزمة المالية لتضييق رقعة التحقيقات في انتهاكات حقوقية ترتكبها أو تدعمها، تحت ذريعة "عدم الكفاءة" أو "أولوية الإنفاق".
العدالة للمجتمعات المتضرّرة
بغياب التمويل الكافي، تُعرّض عمليات جمع الأدلة واستجواب الضحايا لتأجيل أو تعطّل، التحقيق في العنف المشتبه به بحق الفلسطينيين – مثل العنف الاستيطاني أو نقل الأسلحة – واجه تأخيرا كبيرا بسبب نقص الموارد.
هذا يهدّد بعزل الضحايا عن مسارات العدالة الدولية ويزيد من الإفلات من العقاب.
في حالات النزاعات المسلحة – مثل السودان أو أغلب التوترات الإفريقية – تأجيل التحقيقات يعني فقدان الدليل المادي أو فوات لحظة الشهادة، ما يُضعف أي محاكمة لاحقة أمام محاكم دولية أو وطنية.
ومع تقليص الدعم، تبطئ عمليات المساعدة القانونية، تقديم الحماية للمدافعين، المراسلات مع الضحايا، وإصدار التقارير، الأمر يزيد من المخاطر على النشطاء في بيئات يسود فيها القمع، حيث يعتمدون على مهارات الأمم المتحدة الفنية.
كما أن تقليص نشاط مفوضية حقوق الإنسان يضعف قدرة مجلس حقوق الإنسان على تنظيم جلسات شفافة، فتح التحقيقات، الدعوة إلى مساءلة الدول، والتفاعل مع ضغوط المجتمع المدني.
تراجع النفوذ الأخلاقي والقانوني
إن رسالة تخفيض حقوق الإنسان أكثر من الركائز الأخرى تُرسل رسالة إلى الدول بأن هذا البعد هو الأقل أولوية، وهذا يضعف قدرة الأمم المتحدة على المطالبة بالتزام الدول بالقانون الدولي، ويقوّض مكانتها الأخلاقية في النزاعات.
كما أن الدول التي تسعى لتجاوز قواعد الحماية – أو ترفض التعاون مع التحقيقات الدولية – ستستفيد من ضعف الجهاز الأممي، ويصبح بإمكانها الدفع باتجاه مزيد من الانتهاكات مع حماية مؤقتة من الرقابة.
جمعيات حقوقية دولية مثل منظمة الخدمة الدولية لحقوق الإنسان (ISHR) نبهت إلى أن هذه التخفيضات يمكن أن تقتل جوهر المنظومة الحقوقية في الأمم المتحدة، وأنه لا يمكن أن تُعاقب الدول ثم تُترك المفوضية بلا أدوات.
هيومن رايتس ووتش من جهتها حذّرت من أن الأزمة المالية باتت تعيق التحقيقات في أوكرانيا وسوريا ومناطق نزاع أخرى، معتبرة أن "التقشف هو كارثة قريبة على ضحايا الانتهاكات".
على المستوى الحكومي، الدول التي تدعم حقوق الإنسان أعربت عن قلقها من أن الخطوة قد تتيح للدول المنتهِكة الإفلات من المراقبة، أما الدول التي تطالب بسياسات سيادية ضد تدخل خارجي فهي غالباً ما تدعم خفض التمويل أو ترفض مقترحات إعادة التوجه.
من الناحية القانونية، يُنظر إلى التمويل القسري كأداة ضغط سياسية مخالفة لروح التعاون الدولي على حقوق الإنسان، وقد دعا بعض الخبراء إلى تعديل قواعد التصويت أو فرض آليات تقيّد استغلال الميزانية كأداة عصيّة على المراقبة.
خطوة إلى الأمام أم بداية النهاية؟
إن تخفيض ميزانية حقوق الإنسان في ظل أزمة موازنة الأمم المتحدة ليس مجرد قرار رقمي، بل هو اختبار حقيقي لالتزام الدول بحقوق الإنسان كعنصر لا تقبل المساومة في النظام الدولي، إذا فشلت مفوضية حقوق الإنسان في الاضطلاع بوظيفتها الأساسية، فسنشهد مرحلة ضعف غير مسبوقة في حماية الضحايا، وضغطاً أقوى على الدول المنتهكة.
لكي يُتجاوز هذا الخطر، هناك حاجة ملحة لأن تسد الدول المتضررة الثغرات عبر مساهمات طوعية، وتعزيز شفافية الميزانيات، وتفعيل آليات تقاسم العبء المالي، مع إعادة النظر في أولويات الإصلاح (UN80) بحيث لا يُحمَل البُعد الحقوقي أكثر من طاقته، كما ينبغي للمجتمع المدني والبرلمانات الوطنية أن تمارس الرقابة، وتطالب الدول بدخول فاعل في النظام التعاقدي للتمويل الدولي.











