المسؤولية الأخلاقية في العصر الرقمي.. الذكاء الاصطناعي يعيد العنصرية إلى سباق نيويورك الانتخابي

المسؤولية الأخلاقية في العصر الرقمي.. الذكاء الاصطناعي يعيد العنصرية إلى سباق نيويورك الانتخابي
زهران ممداني

أشعل مقطع مصوّر مُولّد بالذكاء الاصطناعي أزمة جديدة في نيويورك، بعدما نشر المرشح، أندرو كومو، فيديو انتخابيًا عنصريًا صُوّر فيه منافسه زهران ممداني في هيئة "مجرم" محاطٍ بصور نمطية مهينة تستهدف الأقليات.

انتشر الفيديو الذي حمل عنوان "مجرمون من أجل زهران ممداني" بسرعة على منصة X قبل أن يُحذف من الحساب الرسمي لكومو بعد دقائق قليلة، تاركًا خلفه عاصفة من الغضب والاتهامات بالعنصرية وسوء استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.

تكشف الواقعة، كما وصفتها "الغارديان" عن أزمة أخلاقية عميقة في العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة، فالمشهد الذي صوّر شخصًا أسود يرتدي كوفية فلسطينية ويُتهم بالسرقة من متجر، إلى جانب شخصيات أخرى تُمارس العنف وتجارة الجنس والمخدرات، لم يكن مجرد حملة هجومية، بل انتهاكاً صريحاً لما يمكن تسميته بـالحق في الصورة الإنسانية العادلة.

ووصفت "ذا إندبندنت" الفيديو بأنه "مقزز ومليء بالصور النمطية العنصرية"، بينما اعتبر محللون أنه "يستحضر ذاكرة الدعاية العنصرية في المدينة" باستخدام رموز بصرية تضرب في عمق وعي الأقليات العرقية.

وفي الوقت الذي أثار فيه المقطع استياءً واسعًا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، تساءل كثيرون عن مدى قدرة التشريعات الحالية على ضبط الاستخدام السياسي للذكاء الاصطناعي الذي يُنتج صورًا ومشاهد زائفة بقدرة فائقة على الإقناع.

الذكاء الاصطناعي كسلاح انتخابي

لم تكن هذه الحادثة الأولى في حملة كومو، إذ سبقتها سلسلة من المقاطع المُولّدة بالذكاء الاصطناعي، ظهر فيها المرشح بأشكال مختلفة وهو يؤدي أعمالًا رمزية في أنحاء المدينة، غير أن الفيديو الأخير تجاوز حدود الدعاية، ليصبح، بحسب "نيويورك بوست"، عملًا عدائيًا رقميًا يوظف الخوارزميات ضد الكرامة الإنسانية.

استخدم كومو الصور لتصوير خصمه كتهديد اجتماعي، مستندًا إلى سرديات عنصرية قديمة تتعلق بالعرق والدين والانتماء السياسي، وهنا يبرز البُعد الحقوقي الأعمق: إلى أي مدى يمكن تبرير التلاعب بالهوية الشخصية والعرقية في سبيل الدعاية السياسية؟

يؤكد باحثون تحدثوا إلى "الغارديان" أن الخطورة لا تكمن فقط في مضمون الإعلان، بل في طبيعته التقنية، فالإعلانات المُولّدة بالذكاء الاصطناعي تُعطي السياسيين قدرة غير مسبوقة على إعادة تشكيل الواقع بصريًا دون مساءلة، ما يشكل تحديًا مباشرًا للحق في المعلومة الصحيحة ولحرية التعبير المستنيرة.

ووصفت الصحفية أنطونيا هيلتون من MSNBC الفيديو بأنه "محزن وعنصري للغاية"، بينما كتب الأستاذ الجامعي بنجامين شولتز-فيغيروا أن "هذا هراء فاشي من الطراز الأول"، ويؤكد هؤلاء أن مثل هذه الاستخدامات تحوّل التكنولوجيا من وسيلة للتعبير إلى أداة للقمع البصري والرمزي.

ويندرج ما حدث تحت مفهوم الكرامة الرقمية، أي حماية الأفراد من التشويه أو التلاعب بهويتهم عبر الوسائط التقنية، فحين تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد صور أو مقاطع تُحرّف هوية الأشخاص، فإن ذلك يشكل اعتداءً مباشرًا على حقهم في السمعة والخصوصية، كما يُهدد مبدأ العدالة في التمثيل العام.

وتُعيد هذه الحادثة إلى الأذهان تحذيرات صدرت مؤخرًا عن منظمات حقوق رقمية طالبت بوضع ضوابط صارمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الدعاية الانتخابية، واعتبار التزييف العميق الذي يستهدف جماعات أو أفراد بناءً على العرق أو الدين جريمة كراهية رقمية.

تكرار خطاب الكراهية

يرى خبراء، نقلت عنهم "ذا إندبندنت"، أن الخطر الأكبر يتمثل في "إضفاء شرعية على العنصرية من خلال التكنولوجيا"، حيث تمنح أدوات الذكاء الاصطناعي السياسيين غطاءً تقنيًا لتكرار خطاب الكراهية بصيغ جديدة يصعب تتبعها قانونيًا.

ولأن الخوارزميات لا تمتلك ضميرًا، فإن ما تنتجه من صور مشحونة بالتحيزات يعكس اختيارات البشر الذين يصممونها، هنا تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف "الأمان الرقمي" بوصفه حقًا إنسانيًا يُلزم الدولة والقطاع الخاص معًا بضمان أن تبقى التكنولوجيا أداة لخدمة الحقيقة لا لتزييفها.

ومع تصاعد الغضب الشعبي، يواجه المشرّعون الأمريكيون ضغوطًا لتسريع سنّ قوانين تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية، فبينما يتعامل الاتحاد الأوروبي مع القضية ضمن "قانون الذكاء الاصطناعي"، لا تزال الولايات المتحدة تسير ببطء في هذا الاتجاه.

وتكشف حادثة نيويورك، كما تقول "الغارديان"، أن الفجوة التشريعية باتت تهدد الحقوق المدنية نفسها، إذ تسمح بإعادة إنتاج العنصرية في صيغ رقمية أكثر انتشارًا وتأثيرًا.

ميثاق للكرامة الرقمية

تدفع هذه الواقعة نحو دعوات متزايدة لوضع ميثاق للكرامة الرقمية، يُجرّم استخدام الذكاء الاصطناعي لتشويه صورة الأفراد أو الجماعات في الخطاب العام، هذا الميثاق، كما يقترحه باحثون، يجب أن يؤسس لحق الإنسان في أن يُمثّل بصريًا بعدالة، وألّا يُختزل إلى كود أو صورة نمطية تُبرمجها الخوارزميات لخدمة مصالح سياسية.

إن ما حدث في نيويورك ليس مجرد سقطة انتخابية، بل جرس إنذار لمرحلة جديدة من التمييز الخوارزمي الذي يختبر ضمير العالم الرقمي، وبينما تُعلن المدن عن حملات لمحاربة خطاب الكراهية، يبقى السؤال الأخطر معلقًا: من يحاسب الذكاء الاصطناعي حين يتحول إلى أداة لامتهان الكرامة الإنسانية؟

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية