نزيف القارة السوداء.. حروب تتوسع ومساعدات تتقلص والملايين عالقون بين العنف والجوع

نزيف القارة السوداء.. حروب تتوسع ومساعدات تتقلص والملايين عالقون بين العنف والجوع
أفارقة يحملون السلاح

في الوقت الذي يتجه فيه اهتمام العالم نحو صراعات كبرى في أوروبا والشرق الأوسط، تتصاعد في إفريقيا أزمات دامية تكاد لا تجد صدى في النقاشات الدولية، فالقارة التي طالما وُصفت بأنها مهد الإنسانية تشهد اليوم أكثر من خمسين نزاعًا مسلحًا، أي ما يقارب أربعين في المئة من إجمالي النزاعات على مستوى العالم، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ويشير نائب رئيسة اللجنة، جيل كاربونييه، إلى أن عدد النزاعات في القارة ارتفع بنسبة خمسة وأربعين في المئة منذ عام 2020، في دلالة على توسع العنف وضعف آليات الاستجابة الدولية.

تسببت تلك الحروب في نزوح نحو خمسة وثلاثين مليون إنسان من ديارهم، كثير منهم يعيشون في مخيمات مؤقتة تفتقر لأبسط الخدمات، ومع هذا المشهد الإنساني القاتم، تواجه المنظمات الإغاثية أزمة غير مسبوقة في التمويل مع تراجع المساعدات الدولية، خصوصًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين كانا يشكلان العمود الفقري لتمويل العمل الإنساني في إفريقيا.

جذور ممتدة لعقود

تاريخيًا، لم تعرف القارة الإفريقية فترات طويلة من الاستقرار السياسي منذ حقبة الاستقلال في ستينيات القرن الماضي، فقد خلفت الحدود الاستعمارية المرسومة على الورق دون مراعاة للتنوع العرقي والثقافي نزاعات داخلية لا تنتهي، ومع ضعف مؤسسات الحكم وغياب العدالة الاجتماعية، تكررت الانقلابات العسكرية، وتفجرت الحروب الأهلية من أنغولا إلى ليبيريا ومن رواندا إلى السودان.

ورغم جهود الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دعم عمليات حفظ السلام، فإن اتساع رقعة الصراعات في السنوات الأخيرة يعكس فشلًا في معالجة الأسباب البنيوية للنزاع، مثل الفقر والتهميش والفساد والتنافس على الموارد الطبيعية، فالقارة التي تمتلك أكثر من ثلث ثروات العالم المعدنية هي ذاتها التي تضم أكبر عدد من السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر.

السودان.. مأساة تتصدر المشهد

يشكل السودان اليوم بؤرة الكارثة الإنسانية في القارة، حيث يوصف الوضع هناك بأنه الأسوأ عالميًا، فمنذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، انهار النظام الصحي، وانتشرت الأوبئة مثل الكوليرا وحمى الضنك، بينما يعيش أكثر من تسعة ملايين نازح داخليًا في ظروف قاسية، وتقول تقارير الأمم المتحدة إن ما يقرب من خمسين في المئة من سكان السودان يواجهون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي.

المنظمات الإنسانية تحذر من أن استمرار القتال يهدد بانهيار كامل لمؤسسات الدولة، فيما تزداد القيود البيروقراطية والأمنية على إيصال المساعدات، وتؤكد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن السودان تحول إلى أكبر أزمة نزوح في العالم، مع تدفق اللاجئين إلى دول الجوار التي تعاني بدورها من هشاشة اقتصادية وسياسية.

بؤر أخرى للعنف المستمر

خارج السودان، يشتعل العنف في مناطق عدة، ففي شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية تتواصل المعارك بين الجيش والمجموعات المسلحة، وسط تقارير عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وعمليات تجنيد للأطفال، وفي الصومال، تتجدد المواجهات بين القوات الحكومية وحركة الشباب، ما يؤدي إلى نزوح عشرات الآلاف سنويًا، أما منطقة الساحل الإفريقي، الممتدة من مالي إلى النيجر وبوركينا فاسو، فقد أصبحت ساحة مفتوحة للجماعات المتطرفة بعد انسحاب قوات حفظ السلام الأممية وتراجع الوجود الدولي.

وتشير منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن العنف المسلح في الساحل أدى إلى مضاعفة عدد القتلى المدنيين خلال عامين فقط، وأن نحو عشرة ملايين شخص هناك بحاجة ماسة إلى الغذاء والمأوى والرعاية الصحية، كما حذرت منظمة العفو الدولية من تصاعد الانتهاكات الموجهة ضد المدنيين، ومن استخدام العنف الجنسي كسلاح في النزاعات.

أزمة إنسانية مضاعفة بسبب تراجع التمويل

في موازاة تصاعد العنف، تواجه المنظمات الإنسانية أزمة مالية خانقة، فقد أعلنت الأمم المتحدة أن خطط الاستجابة الإنسانية في إفريقيا لم تحصل سوى على أقل من ثلاثين في المئة من التمويل المطلوب لعام 2025، ما أدى إلى تقليص البرامج الإغاثية وإغلاق مراكز التغذية والمستشفيات الميدانية في عدة دول.

ويقول المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، إن الطلب على المساعدات في إفريقيا يتزايد بوتيرة غير مسبوقة، في حين يتراجع التمويل بشكل حاد بسبب الأزمات العالمية المتراكمة من أوكرانيا إلى غزة، هذا التراجع في الدعم لا يعني فقط نقص الغذاء والدواء، بل يعني فقدان الأمل لملايين العائلات التي تعتمد على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.

العالم يغضّ الطرف

اتهمت منظمات حقوقية دولية المجتمع الدولي باللامبالاة الأخلاقية تجاه الأزمات الإفريقية، ففي تقرير مشترك صدر مؤخرًا عن مجموعة الأزمات الدولية ومجلس اللاجئين النرويجي، أُشير إلى أن تغطية الإعلام العالمي وتركيز المانحين بات يميل إلى مناطق أخرى، ما جعل الأزمات الإفريقية “أقل قابلية لجذب الاهتمام أو التمويل”.

وأكدت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن حجم المعاناة في إفريقيا لا يعكس حجم الاهتمام الدولي، وطالبت الدول الكبرى باحترام التزاماتها وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، التي تفرض على الأطراف المتحاربة حماية المدنيين والسماح بوصول المساعدات دون عوائق.

القانون الدولي بين المبادئ والواقع

ينص ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف على وجوب حماية السكان المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، وعدم استهداف المرافق الإنسانية أو استخدام المجاعة كسلاح حرب، غير أن الواقع الإفريقي يشهد انتهاكات متكررة لتلك المبادئ، من تدمير المستشفيات والمدارس إلى منع القوافل الإغاثية، وتشير تقارير مجلس الأمن إلى أن عدد الانتهاكات الموثقة ضد العاملين في المجال الإنساني في إفريقيا تضاعف خلال السنوات الخمس الأخيرة.

ويرى خبراء القانون الدولي أن ضعف آليات المساءلة الدولية وفشل المحاكم المحلية في ملاحقة مرتكبي الجرائم ساهم في تفشي ثقافة الإفلات من العقاب، ما جعل المدنيين يدفعون الثمن الأكبر في كل صراع.

مناشدات عاجلة واستجابات محدودة

في مواجهة هذه الصورة القاتمة، تطالب اللجنة الدولية للصليب الأحمر والأمم المتحدة بزيادة التمويل العاجل لبرامج الإغاثة في إفريقيا، كما يدعو الاتحاد الإفريقي إلى تفعيل مبادرة "إسكات البنادق" التي تهدف إلى إنهاء النزاعات بحلول عام 2030، رغم أن التقدم في هذا المسار لا يزال بطيئًا.

وفي المقابل، تحاول بعض الدول الإفريقية إطلاق مبادرات محلية للمصالحة، مثل جهود رواندا في الوساطة بين شرق الكونغو وأوغندا، أو مساعي كينيا لحل الأزمة في السودان، لكنها تبقى مبادرات محدودة مقارنة بحجم التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه القارة.

أصوات من الميدان

في أحد مخيمات النازحين في شمال إثيوبيا، تتحدث امرأة فقدت منزلها قائلة: "لم يعد لدينا شيء سوى الانتظار، لا مدارس لأطفالنا، ولا طعام كاف، والعيادات أغلقت لأن التمويل توقف"، هذا الصوت يعكس مأساة ملايين غيرها ممن يعيشون على أمل أن يسمعهم العالم.

وفي دارفور، يقول عامل إغاثة محلي إن "كل شيء ينهار حولنا نحتاج إلى الطعام والدواء، لكننا نحتاج أولًا إلى السلام".

نحو رؤية إنسانية شاملة

تواجه إفريقيا اليوم مفترق طرق حاسمًا، فإما أن يستمر النزيف ويغرق الملايين في دوامة العنف والفقر، أو يتحقق تحول حقيقي بدعم دولي وإرادة سياسية محلية تنهي الحروب وتفتح الطريق نحو التنمية.

تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن السلام هو أعظم خدمة إنسانية يمكن أن تُقدَّم للقارة، ومع أن الطريق يبدو طويلًا، فإن تجارب بعض الدول الإفريقية التي تجاوزت أزماتها عبر الحوار والمصالحة تثبت أن الأمل لا يزال ممكنًا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية