إفريقيا في مواجهة تقلص المساعدات.. صراع للبقاء في زمن الأزمات
حماية التجارة لا المعونة
تعيش القارة الإفريقية لحظة فارقة في علاقتها مع المساعدات الخارجية، فبعد عقود من الاعتماد الكبير على المساعدات التنموية والإنسانية القادمة من الغرب، تشهد القارة اليوم انكماشًا غير مسبوق في تدفق هذه الموارد، وسط تحولات سياسية عالمية يقودها صعود الحمائية وتراجع الالتزامات الدولية، خاصة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وبينما يثير هذا التراجع مخاوف جدية على الصحة العامة والتعليم وبرامج المساواة بين الجنسين، فإنه يفتح أيضًا الباب أمام نقاشات جديدة حول الاعتماد على الذات، والبحث عن بدائل تمويلية قائمة على التجارة والاستثمار والتنمية المستدامة.
وفي عام 2016، وقف الرئيس الغاني السابق جون ماهاما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليطلق صرخة مدوية: "إفريقيا لا تحتاج إلى تعاطفكم أو مساعداتكم الإنمائية، بل إلى فرصة عادلة للتجارة مع بقية العالم"، كان خطابه، وفق ما أوردته صحيفة "فايننشيال تايمز"، أشبه بنبوءة سبقت تحولات عالمية حادة.
حملة لخفض المساعدات
بعد أقل من عقد، تحققت رؤيته جزئيًا، ولكن ليس بالصيغة التي أرادها، حيث قاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حملة لخفض المساعدات باعتبارها "مضيعة للمال ومعادية لأمريكا"، ثم جاء إيلون ماسك خلال فترة قصيرة تولى فيها منصبًا حكوميًا ليمضي أبعد، مغلقًا الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) ومقتطعًا من ميزانيتها الضخمة البالغة 43 مليار دولار.
ولم تكن الولايات المتحدة وحدها، فقد خفّضت المملكة المتحدة التزاماتها من 0.7% إلى 0.3% من الدخل القومي الإجمالي، وألغت وزارة التنمية الدولية ودمجتها بـوزارة الخارجية، فيما تبعتها دول أوروبية مثل فرنسا وهولندا، أما منظمات الصحة العالمية والأمم المتحدة فوجدت نفسها مضطرة لنقل الموظفين وخفض النفقات، في ظل عجز متزايد.
لخص مسؤول أممي بارز هذا الوضع بعبارة مباشرة: "لقد اختفى نحو خُمس إجمالي ميزانية المساعدات، وعلينا تقبُّل ذلك".
صمت إفريقي
ورغم جسامة التحديات، تشير "فايننشيال تايمز" إلى أن إفريقيا لم تُبدِ احتجاجًا يُذكر، يعود ذلك إلى حالة شكّ طويلة الأمد تجاه المساعدات، إذ رأى كثيرون أنها أداة نفوذ سياسي أو حتى غطاء لوكالات استخباراتية.
كما انتقد خبراء محليون البيروقراطية الضخمة المرتبطة بالمساعدات ورواتب المستشارين الأجانب المرتفعة، إضافة إلى إضعاف الكفاءات المحلية ومنح الحكومات ذريعة للتقاعس عن مسؤولياتها.
عبّر الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا عن هذا بقوله: "بدلاً من البكاء لأن ترامب لم يمنحنا المال، علينا أن نسأل أنفسنا: ماذا سنفعل لدعم أنفسنا؟".
وبالفعل، بدأت بعض الحكومات الإفريقية تبحث عن بدائل، رواندا مثلًا طورت نظامًا متقدمًا للرعاية الصحية الأولية، بينما دعا وزير الصحة النيجيري محمد علي باتي إلى مضاعفة الاستثمارات المحلية في القطاع الصحي، مؤكدًا أن تكاليف تقديم الخدمات محليًا قد تكون أقل بكثير من الاعتماد على خبراء أجانب.
أثر كارثي على الصحة والتعليم
وعلى الرغم من هذه المحاولات، لا يمكن إنكار حجم الأضرار الناجمة عن انسحاب المساعدات المفاجئ، فبرامج حيوية لمكافحة فيروس نقص المناعة والملاريا وتغذية الأطفال توقفت فجأة.
في جنوب إفريقيا، حذرت المديرة التنفيذية لشركة "تيكو"، سارة مالابا، من شلل العيادات المتنقلة التي كانت تخدم المراهقات والفتيات في المجتمعات الهشة: "لا نملك المال ولا السائقين ولا الموظفين الصحيين، لقد تعطلت منظومة كاملة".
وحذرت دراسة نشرتها مجلة "لانسيت" من أن استمرار التخفيضات الأمريكية قد يؤدي إلى وفاة 14 مليون شخص إضافي بحلول عام 2030، ثلثهم من الأطفال.
وأكد الرئيس المشارك لوحدة الجراحة العالمية الممولة من المملكة المتحدة، ديون مورتون، أن تقليص التمويل لن يحرم الآلاف من الرعاية المنقذة للحياة فقط، بل سيضر بسمعة بريطانيا الدولية، أما روبرت روزنباوم، المسؤول السابق في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فقال بمرارة إن إغلاق البرامج كان يعني "معاناة إنسانية حقيقية بين عشية وضحاها".
حواجز حمائية
إذا كان العالم قد استجاب جزئيًا لدعوة ماهاما بالتقليل من المساعدات، فإنه لم يستجب لشقه الآخر المتعلق بالتجارة العادلة، وفي هذا الصدد تشير "فايننشيال تايمز" إلى أن سياسات الحمائية الأمريكية جعلت الوضع أكثر صعوبة.
فجنوب إفريقيا تواجه رسومًا جمركية تصل إلى 30%، بينما ليسوتو –التي صارت "عاصمة الدنيم" بفضل الإعفاءات السابقة– تعرضت لرسوم وصلت إلى 50% قبل تخفيضها إلى 15%، في المقابل، يستمر دعم المزارعين في أوروبا والولايات المتحدة واليابان، ما يجعل المنافسة غير متكافئة.
ورغم تصديق 48 دولة إفريقية على اتفاقية التجارة الحرة القارية، فإن ضعف البنية التحتية والانقسامات التنظيمية والمالية أعاقت تحقيق طفرة حقيقية، زامبيا مثلًا لم تتمكن من تصدير لحومها إلى أنغولا المجاورة، التي فضّلت الاستيراد من البرازيل البعيدة آلاف الأميال.
التمويل التنموي كبديل
أمام هذا التراجع، برزت مؤسسات التمويل الإنمائي (DFIs) كخيار بديل، حيث توفر هذه المؤسسات قروضًا واستثمارات في القطاعين العام والخاص، على عكس المساعدات التي ينظر إليها غالبًا كمنح خيرية.
شدد الرئيس التنفيذي لبنك الاستثمار الدولي، ليزلي ماسدورب، على دور هذه المؤسسات في "تعزيز نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة" وحشد رؤوس الأموال الخاصة، أعلن البنك عن التزامه بضخ 1.09 مليار جنيه إسترليني في شركات إفريقية عام 2024، بزيادة 40% على العام السابق.
وتكشف الأرقام اتساع النشاط: مؤسسات التمويل الإنمائي الأوروبية استثمرت 12.4 مليار يورو العام الماضي، بينما التزمت المؤسسة الأمريكية بتمويل 12 مليار دولار في مشاريع الغذاء والطاقة والصحة والبنية التحتية.
وتعد ميزة هذه المؤسسات أنها قادرة على تمويل مشاريع طويلة الأمد مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية، وهي مجالات لا تستطيع البنوك التجارية المخاطرة بها.
في نيجيريا على سبيل المثال، حصلت شركة "إنفراكريدت" على تمويل بقيمة 30 مليون دولار لدعم مشاريع الطاقة المتجددة، في خطوة وُصفت بأنها "شراكة مبنية على فهم محلي وابتكار تدريجي".
ضربة للنساء والأطفال
إلى جانب هذا السياق، يسلط تحقيق نشرته "الغارديان" الضوء على جدل داخل المملكة المتحدة بشأن التراجع عن التزامها بإنفاق 80% من المساعدات على مشاريع المساواة بين الجنسين، هذا التوجه أثار تحذيرات من أنه سيضاعف أثر التراجع الأمريكي ويكرّس ما وصفه البعض بأنه "حرب عالمية على المرأة".
وقالت وزيرة حزب العمال السابقة، سارة تشامبيون: "التزامات المملكة المتحدة تجاه النساء والفتيات شريان حياة.. لا يمكن حرمانهن من ذلك الآن"، فيما أشار أليكس فارلي من شبكة "بوند" إلى أن "التخلي عن هذا الالتزام في وقت تُهاجم فيه حقوق المرأة عالميًا أمر بالغ القلق".
وأكد تقييم حكومي بريطاني نُشر في يوليو 2025 بالفعل أن التخفيضات انعكست سلبًا على صحة النساء، وتعليم الفتيات، والاستجابة للطوارئ في إفريقيا، أما تقييم آخر نشرته وزارة الخارجية والتنمية فقد حذر صراحة من أن خفض الميزانية إلى 0.3% سيؤدي إلى زيادة الوفيات والأمراض، وإلى تعطيل برامج التعليم والصحة في دول مثل الكونغو وزيمبابوي وموزمبيق وإثيوبيا.
بين "المعونة" و"التنمية"
في خضم هذه التطورات، تبرز أصوات أكاديمية تحذر من اختزال النقاش في ثنائية "المعونة أو لا معونة"، فقد شدد الاقتصادي بول كولير من جامعة أوكسفورد على أن ما تحتاج إليه إفريقيا هو "استثمار وتنمية مستدامة"، مع توجيه ما تبقى من المساعدات إلى أفقر الدول بشكل أكثر كفاءة.
وأوضح كبير الاقتصاديين السابق في وزارة التنمية البريطانية، ستيفان ديركون، بدوره أن المساعدات قد تنقذ الأرواح وتحقق نتائج إيجابية، لكنها لا تحقق التنمية في نهاية المطاف، وتتطلب التنمية الحقيقية النمو الاقتصادي المستدام الذي انتشل مليارات البشر في آسيا من الفقر.
وفي النهاية، فما تشهده إفريقيا اليوم ليس مجرد أزمة مساعدات، بل تحول بنيوي في العلاقة بين القارة والعالم، فبينما ينسحب الغرب من التزاماته التاريخية تحت ضغط الداخل والخارج، تجد إفريقيا نفسها أمام معادلة صعبة: كيف تعوض خسارة المساعدات دون أن تدفع ثمنًا باهظًا في الصحة والتعليم والمساواة؟