الحق في المساواة يهزم خطاب الكراهية.. هولندا تعيد الاعتدال إلى المشهد الأوروبي
الحق في المساواة يهزم خطاب الكراهية.. هولندا تعيد الاعتدال إلى المشهد الأوروبي
في مشهد سياسي أوروبي تزداد فيه نبرة التطرف والانعزال، اختار الهولنديون طريقًا آخر، حيث منح الناخبون في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التفويض لزعيم حزب الديمقراطيين 66، روب جيتن، ليقود البلاد في مرحلة عنوانها “الأمل والاعتدال”، على حساب اليميني المتشدد خيرت فيلدرز الذي طالما جعل من معاداة المهاجرين والإسلام حجر الزاوية في خطابه السياسي.
ولم تكن النتيجة مجرد تحول انتخابي، بل لحظة سياسية تعبّر عن رفض عميق لاستغلال الخوف والكراهية في الحياة العامة، وتجديد للثقة في مبادئ المساواة التي قامت عليها الديمقراطية الهولندية.
في المناظرة الأخيرة قبل يوم الاقتراع، وقف جيتن، البالغ من العمر 38 عامًا، في مواجهة فيلدرز الذي تجاوز الستين عامًا وأمضى عقدين في تغذية خطاب الانقسام، هناك، وضع جيتن أمام الجمهور خيارين واضحين: الاستمرار في الاستماع إلى "المرارة والكراهية" لعشرين عامًا أخرى، أو التوجه نحو "القوى الإيجابية" التي تعيد الثقة بالمجتمع والدولة.
وفي اليوم التالي، استجاب الهولنديون لدعوة التفاؤل، حصد حزب D66 نحو 18% من الأصوات، متصدرًا النتائج، فيما تراجع حزب الحرية اليميني المتشدد إلى المرتبة الثانية بحصوله على 25 مقعدًا، وبذلك يكون جيتن، الذي شغل سابقًا منصب وزير المناخ في حكومة مارك روته، قد وضع حدًا لهيمنة الخطاب الشعبوي على السياسة الهولندية في السنوات الأخيرة.
وفقًا لتقارير صادرة عن "الإيكونوميست" و"الغارديان"، يكشف التحليل الأعمق للنتائج أن ما جرى في هولندا ليس مجرد فوز حزبي ضيق، بل تحوّل في المزاج العام، فبعد سنوات من الخوف من المهاجرين ومن تحميلهم مسؤولية أزمات السكن والرفاه، بدأ الناخبون يميلون إلى برامج عملية بدل الشعارات العدائية.
أدرك المواطن الهولندي أن التحديات الكبرى -من أزمة المناخ إلى الإسكان وتكافؤ الفرص- لا تُحل بخطابات الكراهية، بل بالسياسات العامة التي تعيد الثقة بين المواطن والدولة، هذه الرسالة التي رفعها جيتن في حملته تحت شعار "هيت كان ويل" أي (نعم نستطيع) بدت بمثابة تذكير بأن السياسة يمكن أن تكون أداة لبناء المستقبل لا للهجوم على الآخر.
مواجهة خطاب الإقصاء
تتجاوز أهمية هذا التحول السياسة الداخلية لتلامس جوهر الحقوق الإنسانية، فخطاب اليمين الشعبوي الذي مثّله فيلدرز طوال عقدين ارتكز على فكرة نفي المساواة: التمييز ضد المسلمين، والدعوات المتكررة لحظر القرآن، والتشكيك في شرعية وجود المهاجرين.
في المقابل، جاءت حملة جيتن لتعيد الاعتبار إلى الحق في المساواة كقيمة أساسية في المجتمع الأوروبي، فاختياره المعلن لهويته المثلية لم يكن تفصيلًا شخصيًا، بل إعلانًا عن أن التنوع ليس تهديدًا، بل ركيزة من ركائز الكرامة الإنسانية، ومع فوزه، تصبح هولندا أول دولة في تاريخها يقودها رئيس وزراء يعلن عن مثليته.
ورغم هذا الانتصار الرمزي، يدرك جيتن أن طريقه نحو تشكيل الحكومة لن يكون سهلًا، فخريطة البرلمان الهولندي موزعة على نحو غير مسبوق بين خمسة عشر حزبًا، ما يجعل بناء ائتلاف مستقر مهمة معقدة، ومع أن حزب D66 يتقاطع في رؤيته الليبرالية مع أحزاب الوسط مثل الحزب الديمقراطي المسيحي (CDA) وحزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية (VVD)، فإن الخلافات حول سياسات المناخ والهجرة قد تعقّد المفاوضات.
إلى جانب ذلك، يبقى الضغط الشعبي للحد من الهجرة حاضرًا بقوة، فهولندا تواجه أزمة إسكان حادة بنقص يتجاوز 400 ألف وحدة سكنية، في وقت تعاني فيه مؤسسات الإسكان الاجتماعي من قوائم انتظار طويلة تمتد لعقد كامل في بعض المدن.
ومع ذلك، تشير "الإيكونوميست" إلى أن أغلبية الأحزاب باتت تميل نحو مقاربات واقعية لهذه الأزمة، تجمع بين تنظيم الهجرة وتسريع البناء وتوسيع برامج الإسكان العام، بدل استخدام المهاجرين كشمّاعة سياسية.
من زاوية أخرى، يُنظر إلى فوز جيتن كإشارة إلى تحوّل أوسع داخل المجتمع الهولندي، فبعد عقدين من صعود الأحزاب الشعبوية، بدأت ظاهرة "سياسة الاحتجاج" تتراجع لصالح ثقافة "السياسة المسؤولة"، فمنذ مقتل المخرج ثيو فان غوخ في 2004 وتصاعد خطاب الخوف من الإسلام، عاش الهولنديون حالة من الانقسام والريبة تجاه المهاجرين.
اليوم، يبدو أن الأجيال الجديدة تسعى إلى تجاوز تلك الحقبة، وهذا ما تؤكده "يورو نيوز"، التي أشارت إلى أن الشباب كانوا القوة الدافعة وراء ارتفاع نسبة المشاركة، وصوتوا بكثافة لصالح الأحزاب الداعمة للبيئة والمساواة وحقوق الإنسان.
انعكاس أوروبي
لا يمكن فصل ما جرى في لاهاي عن السياق الأوروبي الأوسع، فمع صعود اليمين المتشدد في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، جاء التصويت الهولندي ليشكل توازنًا في المشهد، لتثبت هولندا أن الديمقراطيات الأوروبية قادرة على تصحيح مسارها من الداخل، وأن الجمهور ليس دائمًا أسير الخوف أو الشعبوية.
ويرى محللون في "الغارديان" أن هذا التحول سيؤثر على النقاشات الأوروبية بشأن الهجرة وحقوق الإنسان، خصوصًا مع استعداد الاتحاد الأوروبي لتطبيق سياسات أكثر صرامة على الحدود، فصوت هولندا، البلد المؤسس في الاتحاد، سيظل مؤثرًا في صياغة توازن جديد بين حماية الأمن واحترام الكرامة الإنسانية.
وبحسب "الإيكونوميست"، عكست الانتخابات، ميلًا متزايدًا لدى الهولنديين إلى الثقة في المؤسسات الديمقراطية، رغم تعدد الأحزاب وتشظي المشهد السياسي، وهذه الثقة هي التي حالت دون انزلاق البلاد نحو الشعبوية المتطرفة التي اجتاحت أجزاء أخرى من القارة.
يعد ما حدث في هولندا هو أكثر من تنافس انتخابي، إنه درس في قدرة المجتمعات على مقاومة التطرف بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فبينما تتصاعد موجات العداء للمهاجرين في أوروبا، جاءت النتيجة الهولندية لتؤكد أن الديمقراطية ليست فقط آلية حكم، بل منظومة قيم تتيح للمجتمع الدفاع عن نفسه أمام خطاب الإقصاء، وفي لحظةٍ تزداد فيها التجاذبات الأوروبية حول الهوية والانتماء، أعادت هولندا تذكير العالم بأن احترام الحقوق ليس ترفًا، بل هو أساس استقرار المجتمعات الحديثة.











