في ظل خطاب الكراهية.. المهاجرون يدفعون ثمن أزمة هولندا السكنية

يعيشون في مساكن "غير إنسانية"

في ظل خطاب الكراهية.. المهاجرون يدفعون ثمن أزمة هولندا السكنية
أزمة السكن في هولندا

تواجه هولندا أزمة سكن متفاقمة تكشف عن عمق الخلل في السياسات العامة، وعن انتهاك صريح للحق في السكن اللائق كما تكفله المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

أطلقت بلدية روتردام، وفق ما نقلته صحيفة "الغارديان" البريطانية، حملة تفتيش ميدانية على المساكن التي يقطنها العمال المهاجرون بعد تزايد الشكاوى من الإيجارات الاستغلالية والعقود غير القانونية، حيث طرق متطوعون أبواب مئات المنازل لتوعية المقيمين بحقوقهم، وتأكيد أن القانون الجديد يمنحهم أدوات حماية من أصحاب العقارات الذين حوّلوا الأزمة إلى وسيلة للربح السريع على حساب الفقراء والوافدين.

افتتحت مديرة سياسات الإسكان، تامارا وانكر، إحدى الجولات الميدانية بعثورها على أربعة عمال بولنديين يدفعون إيجارًا مضاعفًا يفوق الحد القانوني، وأكدت أن هؤلاء "الوافدين الجدد إلى روتردام يستحقون منزلًا كأي شخص آخر"، مشددة على أن السكن ليس منّة من أحد، بل حق يجب أن يُصان.

وأضاف منسق إنفاذ القانون، راينير فان أوفرستيج، أن فرق التفتيش تواجه حالات متكررة من الاستغلال الممنهج، حيث يُحشر خمسة أو ستة أشخاص في شقق صغيرة، ويُخصم السكن من رواتبهم، ثم يُطردون إلى الشارع بمجرد انتهاء عقود عملهم. "بعضهم ينام في ما يُعرف بـ‘السرير الدافئ"، حيث يخرج أحدهم لعمله فيدخل آخر مكانه، قال أوفرستيج، واصفًا المشهد بأنه انتهاك صريح للكرامة الإنسانية.

خطاب الكراهية

تزامنت هذه الحملة مع احتدام الجدل السياسي قبل الانتخابات العامة، حيث صعّد حزب الحرية اليميني المتطرف بقيادة خيرت فيلدرز خطابًا يحمّل المهاجرين مسؤولية أزمة السكن، مستغلًا حالة الغضب الشعبي من ارتفاع الإيجارات ونقص المساكن.

شهدت لاهاي مؤخرًا احتجاجات تحوّلت إلى أعمال شغب صاحبتها تحيات نازية وهجمات على الشرطة والصحفيين، في مشهد يعيد إلى الأذهان أخطر موجات العنصرية في أوروبا.

أكد محرر الشؤون الاقتصادية في صحيفة دي غرون أمستردام، كوين هاغينز، أن "الغضب الشعبي من أزمة السكن يُستخدم سياسيًا لتوجيه اللوم نحو المهاجرين، بينما السبب الحقيقي يكمن في السياسات الاقتصادية الخاطئة وضعف البناء والتخطيط الحضري".

وأظهرت بيانات رسمية أن عدد سكان هولندا ارتفع بنحو مليون شخص خلال العقد الأخير ليصل إلى 18 مليونًا، نتيجة للهجرة الصافية، لكن اللاجئين يمثلون فقط 12% من هذه الزيادة، بينما يشكل العمال المهاجرون، القادمون أساسًا للعمل في الزراعة والصناعات الغذائية والتوزيع، الأغلبية الساحقة.

ومع ذلك، يُصوَّر هؤلاء في الخطاب اليميني كعبء على الدولة، رغم أنهم يؤدّون وظائف حيوية يرفضها كثير من المواطنين.

أزمة سياسة لا أزمة هجرة

كشف تقرير نشرته صحيفة "تايمز الهولندية" أن المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالسكن اللائق، بالاكريشنان راجاجوبال، وجّه انتقادًا مباشرًا إلى الساسة الهولنديين الذين يحرّضون على كراهية الأجانب من خلال تحميل المهاجرين مسؤولية أزمة السكن.

قال راجاجوبال في تقرير من 19 صفحة صدر عقب زيارته لهولندا إن "عقودًا من السياسات الحكومية، لا المهاجرين، هي السبب في الأزمة الحادة التي تمسّ جوهر الحق في السكن اللائق". وأضاف: "ظهرت رواية زائفة مفادها بأن تدفق الأجانب هو السبب، واستُغلت لأغراض سياسية أدت إلى انقسام المجتمع الهولندي وتطرّف الرأي العام".

وأوضح المقرر الأممي أن أكثر من نصف المهاجرين إلى هولندا هم من دول الاتحاد الأوروبي، وأن 11% فقط من طالبي اللجوء، وأكد أن هذه الفئات لا تنافس المواطنين الهولنديين على المساكن الميسّرة، بل تجد نفسها في "قاع السوق" حيث لا يرغب معظم السكان في الإقامة، مضيفًا: "أزمة السكن ليست أزمة هجرة، بل أزمة خيارات سياسية خاطئة وغياب الحماية القانونية للحق في السكن".

وذكّر راجاجوبال الساسة الهولنديين بأن "العديد من طالبي اللجوء يفرّون من دول كُبحت فيها حقوقهم بسبب تدخلات عسكرية شاركت فيها هولندا"، داعيًا إلى التوقف عن تجريم الضحايا.

وأوصى بـ65 إجراءً إصلاحيًا، أبرزها ترسيخ الحق في السكن اللائق في الدستور الهولندي، وإعادة إنشاء وزارة مستقلة للإسكان، وتمكين البلديات من فرض سقف للإيجارات وتغريم الملاك الذين يتركون العقارات فارغة للمضاربة.

ورغم أن الممثل الدائم لهولندا لدى الأمم المتحدة، بول بيكرز، أعلن أن الحكومة ستدرس هذه التوصيات "بجدية"، فقد رفض فكرة إدراج الحق في السكن ضمن الدستور واصفًا إياها بـ "الجذرية"، كما انتقد ما اعتبره تعميمًا في انتقادات المقرر الأممي لمراكز اللجوء، معتبرًا أن بعض الملاحظات "عجولة وغير مفصلة بما يكفي".

الإخلاءات الجماعية

أوردت "تايمز الهولندية" في تقرير آخر أن أكثر من 200 عامل مهاجر في لاهاي يواجهون خطر التشرد بعد أن أمرت البلدية وكالة التوظيف "جوب سنتر هاغلاندن" بإخلاء مجمع سكني في حي دي أويثوف، كان يضم نحو 320 عاملًا.

جاء القرار بعد عامين من المداولات، إذ أبلغت البلدية الوكالة في وقت سابق أن إبقاء العمال في المساكن المؤقتة دون تصاريح قانونية لم يعد ممكنًا، وقال عضو المجلس المحلي، مارتين بالستر، إن الوكالة "استفادت من العمالة الرخيصة ولم تتحمل مسؤوليتها في توفير بدائل سكنية، رغم علمها منذ عامين بضرورة الإخلاء".

في المقابل، قال مدير وكالة التوظيف، مؤمن جيزيجي، إن الوكالة "عملت ليلًا ونهارًا لإيجاد مساكن بديلة، لكنها لم تتلق الدعم الكافي من السلطات"، مؤكدًا أنها وفرت مساكن لـ60 عاملًا فقط، بينما ما زال 260 بلا مأوى.

ورغم نفي الوكالة الاتهامات، أصرّ المجلس البلدي على المضي في الإخلاء، معتبرًا أن "العمال المهاجرين لا يمكن معاملتهم كمواد قابلة للرمي بعد انتهاء حاجتهم"، بحسب بالستر.

كشفت التقارير الرسمية أن أكثر من 6000 عامل مهاجر مشرد يعيشون في الشوارع أو في مساكن غير مستقرة في هولندا، نتيجة الاعتماد المفرط على وكالات توظيف خاصة تحتكر توفير السكن والوظائف معًا، ورغم أن الحكومة تعمل على تشريع جديد ينظم هذه الوكالات ويمنع استغلال العمال، فقد أُجّل تطبيقه حتى عام 2026، ما يترك آلاف الأشخاص في مواجهة مصير مجهول.

يرى أستاذ أنظمة الإسكان بجامعة دلفت للتكنولوجيا، بيتر بولهوير، أن الأزمة ليست سوى نتاج مباشر لسياسات تمتد لعقود، من تراجع مشاريع البناء إلى ارتفاع عدد الأسر المكونة من شخص واحد، قائلا: "ما يحدث مأساوي"، مشيرًا إلى آلاف العمال الموسميين الذين ينتهي بهم المطاف في ظروف "بائسة" داخل المدن الكبرى.

ويتفق معه الأستاذ الفخري لعلاقات العمل بجامعة أمستردام، بول دي بير، الذي يرى أن أي حديث عن تقليص العمالة الأجنبية يجب أن يتزامن مع إصلاح أوسع لسياسات العمل والتقاعد، لأن "الاقتصاد الهولندي نفسه يعتمد على هؤلاء العمال في القطاعات الحيوية".

وفي ظل هذه الوقائع، يتضح أن أزمة السكن في هولندا ليست مجرد قضية اقتصادية أو انتخابية، بل قضية حقوق إنسان بامتياز، تتعلق بكرامة الإنسان وقدرته على العيش في مأوى آمن يضمن له الاستقرار والحماية، حيث تُظهر الأزمة كيف تتحول السياسات الخاطئة إلى آليات تمييز غير معلنة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية