ماذا وراء الأرقام؟.. دراسة ألمانية: العراقيون هم الأقل سعادة بين المهاجرين
ماذا وراء الأرقام؟.. دراسة ألمانية: العراقيون هم الأقل سعادة بين المهاجرين
أظهرت دراسة حديثة أجراها المعهد الفيدرالي لأبحاث السكان في ألمانيا (BiB) أن المهاجرين القادمين من العراق هم الأقل شعوراً بالسعادة والرضا عن الحياة بين الجاليات المهاجرة المقيمة في ألمانيا، في مفارقة مؤلمة تعكس عمق الأزمات الاجتماعية والنفسية التي يعانيها العراقيون في المهجر، رغم أن غالبيتهم فرّوا بحثاً عن الأمان والكرامة والاستقرار.
الدراسة التي نُشرت نهاية أكتوبر 2025، وفق شبكة "rudawarabia" الإخبارية اعتمدت على بيانات ميدانية شملت آلاف المهاجرين من 27 جنسية مختلفة، منهم لاجئون ووافدون جدد ومقيمون منذ عقود، تتراوح أعمارهم بين 20 و52 عاماً.
وخلصت النتائج إلى أن المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق وبولندا هم الأكثر سعادة، في حين جاء العراقيون والكرد من إقليم كردستان العراق في ذيل القائمة، بوصفهم الأقل رضا عن حياتهم في ألمانيا.
في المقابل، أظهرت الدراسة أن الكرد من سوريا (روجافا) والمهاجرين السوريين عموماً أكثر سعادة ورضا، على الرغم من الأوضاع الصعبة التي واجهوها في بلدهم الأم قبل الهجرة.
الأسباب النفسية والاجتماعية
يُعزى انخفاض مستوى الرضا لدى العراقيين إلى عدة عوامل متشابكة، فبحسب الباحثين الألمان الذين أعدّوا الدراسة، فإن الإجراءات البيروقراطية الطويلة الخاصة بطلبات اللجوء والإقامة الدائمة واستقدام العائلات تمثل أحد أبرز أسباب القلق وعدم الاستقرار النفسي. إذ يعاني كثير من العراقيين من تأخر البت في ملفاتهم أو رفض طلباتهم، ما يضعهم في حالة انتظار دائم.
كما يُضاف إلى ذلك الحنين إلى الوطن والشعور بالاغتراب الثقافي، حيث يجد القادمون من بيئات اجتماعية محافظة أنفسهم في مجتمع أوروبي مختلف القيم والعادات، وتُظهر دراسات موازية أُجريت من قبل جامعات ألمانية، منها جامعة لايبزيغ، أن العراقيين يعانون من مستويات مرتفعة من الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة، خصوصاً بين أولئك الذين عايشوا الحروب أو النزوح أو فقدان أحد أفراد أسرهم.
تُشير تقديرات وزارة الداخلية الألمانية إلى أن عدد العراقيين المقيمين في ألمانيا يتجاوز 310 آلاف شخص، منهم أكثر من 80 ألف لاجئ وصلوا بعد عام 2015، خلال موجة الهجرة الكبرى نحو أوروبا، ورغم مرور سنوات على استقرار كثير منهم، إلا أن اندماجهم الاقتصادي والاجتماعي ما زال محدوداً، إذ تبلغ نسبة البطالة بين العراقيين المهاجرين قرابة 22 بالمئة، وهي من الأعلى بين الجاليات غير الأوروبية.
مواجهة بيروقراطية اللجوء
تاريخ العراقيين في ألمانيا مع اللجوء طويل ومتعدد المراحل. فقد شهدت البلاد موجات هجرة منذ الثمانينيات بسبب الحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب الخليج، فالعقوبات الاقتصادية، وأخيراً الغزو الأميركي عام 2003 وما تلاه من نزاعات داخلية. هذه التراكمات التاريخية جعلت كثيراً من العراقيين يعيشون في دوامة خوف نفسي عميق حتى بعد مغادرتهم الوطن.
في مقابلات أجرتها شبكة "دويتشه فيله" الألمانية مع لاجئين عراقيين سابقاً، عبّر عدد منهم عن شعور دائم بعدم الأمان، رغم استقرارهم المادي النسبي، موضحين أن ذكريات الحرب والتمييز الطائفي تجعلهم غير قادرين على الشعور بالراحة الكاملة في أي مكان.
إلى جانب الصدمات السابقة، يشعر العديد من العراقيين بأنهم مستثنون من بعض برامج الاندماج، أو لا يحظون بالدعم اللغوي والتعليمي الكافي، مقارنة بجاليات أخرى، ويشير باحثون في علم الاجتماع إلى أن صورة العراق في الإعلام الأوروبي بوصفها دولة مضطربة تؤثر في تصور المجتمع الألماني للعراقيين، ما ينعكس على فرص العمل والسكن والاندماج الاجتماعي.
معاناة إنسانية عميقة
من الناحية الإنسانية، تضع هذه النتائج الضوء على ما يمكن تسميته بـ "الغربة المزدوجة" التي تتمثل في غربة عن الوطن وغربة داخل المجتمع الجديد، فالعراقيون الذين فقدوا بيوتهم وذكرياتهم في بلادهم، يجدون أنفسهم في بيئة باردة لا تستوعب تماماً معاناتهم أو اختلافاتهم الثقافية.
ويشير تقرير صادر عن منظمة أطباء بلا حدود في برلين إلى أن اللاجئين العراقيين من أكثر الفئات التي تتردد على العيادات النفسية التابعة للمنظمات الإنسانية، وأن حالات الاكتئاب والعزلة الاجتماعية بينهم تفوق المتوسط العام للمهاجرين بنسبة 35 بالمئة.
كما رصدت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) في تقاريرها لعام 2024، أن أكثر من نصف العراقيين المقيمين في ألمانيا يواجهون صعوبات في لمّ شمل عائلاتهم، ما يزيد من الإحباط النفسي ويُعمّق شعور الانفصال عن الحياة الاجتماعية.
وتقول المنظمة في بيانها الأخير إن الحق في الحياة الأسرية جزء لا يتجزأ من الحماية الدولية، داعيةً الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا، إلى تسريع إجراءات لمّ الشمل بما يتماشى مع اتفاقية اللاجئين لعام 1951 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
آراء المنظمات الحقوقية
منظمات حقوقية ألمانية مثل "برو أزول" و"التحالف من أجل اللاجئين"، عبّرت عن قلقها من ارتفاع معدلات الاكتئاب والعزلة بين العراقيين، وقالت برو أزول في تقريرها لعام 2025 إن “سياسات اللجوء المتشددة والتمييز في سوق العمل تضع المهاجرين العراقيين في وضع هشّ، وتدفع كثيرين إلى العيش على هامش المجتمع الألماني”.
من جهتها، شددت المفوضية الأوروبية في تقييمها السنوي لبرامج الاندماج على ضرورة توسيع برامج التدريب المهني وتبسيط مسارات الحصول على الإقامة الدائمة للعراقيين واللاجئين من الدول المتأثرة بالنزاعات الطويلة.
كما دعت منظمة العمل الدولية (ILO) إلى تطبيق نهج تنموي شمولي يربط سياسات الهجرة بالتشغيل والتعليم، لتجنب تحويل اللاجئين إلى فئات مهمشة اقتصادياً.
الانعكاسات لا تتوقف عند الجيل الأول من المهاجرين. فبحسب تقرير نشرته جامعة هامبورغ في مايو 2025، يعاني أبناء المهاجرين العراقيين في ألمانيا من صعوبات اندماج تفوق أقرانهم من الجاليات الأخرى، بسبب فجوات لغوية وثقافية وغياب الثقة المتبادلة بين العائلة والمدرسة، ويرى علماء الاجتماع أن إحساس الأهل بعدم الانتماء ينتقل إلى الأبناء، ما يخلق جيلاً ثالثاً عالقاً بين هويتين لا يشعر بالانتماء الكامل لأي منهما.
مقارنة مع جاليات أخرى
في المقابل، تظهر الجالية السورية درجة أعلى من الرضا، إذ استفاد كثير من أفرادها من برامج خاصة بالاندماج والتعليم ودعم المشاريع الصغيرة، كما أن تسريع إجراءات اللجوء بعد عام 2015 أتاح لهم فرص استقرار أسرع، ما انعكس إيجاباً على صحتهم النفسية والاجتماعية.
ويواجه العراقيون، خاصة ذوي الأصول الكردية أو الإيزيدية، صعوبات مضاعفة تتعلق بالتمييز أو بطء البتّ في ملفاتهم نتيجة التعقيدات الإدارية بين الحكومة المركزية في بغداد والإقليم الكردي، وهو ما أشار إليه التقرير صراحة.
في النهاية، تبدو مسألة السعادة بين العراقيين في ألمانيا أبعد من كونها رقماً في دراسة، إنها تعبير عن أزمة هوية ممتدة بين ماضٍ مثقل بالعنف وحاضرٍ صعب التكيّف، فالإحساس بالسعادة لا يرتبط فقط بالمستوى المعيشي، بل بالقدرة على الشعور بالأمان والانتماء والقدرة على إعادة بناء الذات في مجتمع جديد.
ويجمع الباحثون أن تحسين واقع العراقيين في ألمانيا يتطلب سياسات أكثر حساسية ثقافياً وإنسانياً، وتوفير فرص عمل وتعليماً وتأهيلاً نفسياً، إلى جانب إعادة النظر في سياسات اللجوء ولمّ الشمل التي تُعدّ حجر الأساس في استقرار الأسر المهاجرة.










