براءة يحاصرها الجوع.. أطفال غزة يهربون من القصف إلى المجهول

براءة يحاصرها الجوع.. أطفال غزة يهربون من القصف إلى المجهول
فلسطينية وأطفالها في غزة- أرشيف

طفلة في غزة ترتجف من الجوع لا البرد، رأسها الصغير يرتعش بنوبات عصبية غامضة، ليست بفعل مرض عضوي معروف، بل فراغ المعدة وخواء الجسد، لا كهرباء في بيتها، لكن الكهرباء تشتعل في دماغها، تتوهج في أعصابها شرارة برية لا تهدأ بسبب جوع قسري فُرض على أهل غزة.

لم تكن تلك ملاحظة طبية مدونة على ورق، ولا تشخيصاً في مستشفى يعجّ بالمراجعين، كانت شهادة رجل عاجز، يقف أمام انهيار طفلة ولا يملك لها علاجاً ولا خلاصاً، سوى أن يروي حكايتها، علّ العالم يسمع.

القصة يرويها محمد العروقي من غزة، يقول: "حدث لابنة أخي حالة غريبة؛ مثل كهرباء زائدة في دماغها من الجوع، وضع البنت خطِر، ولا مال لدينا لنأتي لها بحليب، ولا مكملات، ولا حتى خبزة" ثم صمت، لكن صمته لم يكن عادياً، لم يكن فراغاً بين جملة وأخرى، بل كان أكبر من أي نواح.

في قطاع أنهكه الحصار والتجويع والحروب، بات الجوع مرضاً قاتلاً لا يُشخّص في العيادات، بل يُرى بالعين المجرّدة، يُلمَس في وجوه الأطفال الهزيلة، في الأذرع النحيلة، في ارتجاف الأطراف الصغيرة، يُسمع في صوت أم تخنقها الحسرة؛ لأنها لم تجد ما تطبخه، ولا ما تبكيه، الجوع في غزة لا يحتاج إلى تحاليل مخبرية، يكفي أن تنظر.

محمد، الذي تحدّث لـ"جسوربوست"، وكأنّه يكتب نعياً مفتوحاً، لا يروي مأساة عائلة، بل يصف دمار جيل، ابن أخيه الآخر، طفل في الخامسة، فقد إحدى عينيه بعد إصابته بشظية في بداية العدوان، احتاج لعلاج فوري لينقذ عينه الأخرى، لكن لا تحويلة طبية وصلت، ولا موافقة دولية جاءت، ولا نافذة أمل فُتحت في جدار الموت.

قال محمد: "العين الثانية مهددة، بس ما قدرنا نطلعه، ما في طريق ما في دولة"، قالها بصوت شخص لم يبقَ أمامه سوى الجدار والعتمة، هذه القصص ليست مشاهد درامية، تُبثّ على الشاشات، ولا لقطات مصورة لمآسٍ من بعيد، هي الحياة اليومية في غزة، حياة تُطفأ بصمت.

في غزة، لا يأتي الموت صاخباً، بل يزحف بصمت، كما لو كان يعتذر عن تأخره في يوليو 2025، وبينما كانت الشاحنات الإنسانية تتناقص، والرفوف الطبية تفرغ من أنينها، أعلنت وزارة الصحة في غزة أن 48 شخصاً، بينهم 20 طفلاً، توفوا جراء أمراض مرتبطة بسوء التغذية الحاد، وذلك خلال ثلاثة أسابيع فقط من الشهر، وفق تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس في 11 يوليو، لكن هذا الرقم، الذي يبدو كاشفاً، لا يعكس سوى ما أمكن للمستشفيات المنهكة تسجيله؛ إذ هناك أجساد لم تصل أصلاً إلى أروقة العلاج، ووجوهٌ صغيرة دُفنت قبل أن تُسجَّل، كما دُفنت البيانات تحت الركام.

الجوع يتسلل من الأطراف

الجوع في غزة لا يُعلن عن نفسه فوراً، إنه يتسلل من أطراف الجسد: من تشنّج في عضلة، من اصفرارٍ في العين، من نظرةٍ خاملة لا تسأل عن الغد، الأمّ التي تسهر إلى جانب طفلها لا تعرف اسمه العلمي، لكنها ترى بأمّ عينها جسده ينكمش، لا من مرض، بل من فراغ، لا يموت الطفل مرة واحدة، بل يموت حين يسكت أنينه، حين لا يجد في حضن أمه ما يطعم الروح، ولا على الملعقة ما يغذي الجسد.

التقارير الطبية لا تحصي سوى ما يمكن إدخاله في جدول، أما الحقيقة في شوارع المخيم فهي بين أمهاتٍ يخدّرن أبناءهن بكذبة "سنتعشّى غداً"، وبين آباءٍ يبيعون ما تبقّى من الكرامة ليشتروا كيس دقيق. 

الجوع هنا ليس صدفة ولا قدراً، بل نظاماً يتقن عمله، يختبر قدرة الأحياء على الموت بالتقسيط، وكل طفل يرحل لا يُسجّل فقط في خانة الفقد، بل يكتب سطراً جديداً في قصة الحصار الذي أصبح يعرف أسماءهم واحداً واحداً.

المأساة لا تقف عند ندرة الطعام، بل تتفاقم بانعدام العلاج، يروي محمد، بصوت يثقل عليه اليأس، قصة طفله الذي أصيب في عينه، وكان بحاجة إلى تدخل طبي عاجل خارج القطاع. لكن الرحيل للعلاج بات ضرباً من الحلم؛ فالتنسيق معدوم، والحدود مغلقة، والمال مفقود، لم يحصل الطفل على فرصة، فتدهورت حالته، وبدأت العين السليمة تهددها العتمة هي الأخرى. كأن الأمل نفسه تحت الحصار، لا دواء له ولا جهة تجيب الاتصال.

تحذير من انهيار شامل

في ظل هذا الواقع، تحذّر المنظمات الدولية من انهيار شامل، إذ تشير تقديرات "اليونيسف" و"برنامج الأغذية العالمي" إلى مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي، وتؤكد أن 96% من سكان شمال غزة يعيشون حالياً تحت ظروف تُصنَّف مجاعةً فعليةً، في حين ارتفعت معدلات التقزّم والهزال بشكل حاد، ولا سيما الأطفال دون سن الخامسة، الذين تحوّلت أجسادهم إلى مؤشرات بشرية على فشل العالم.

ويورد تقرير الأمن الغذائي الصادر في يوليو أن 495,000 شخص داخل القطاع يواجهون ظروفاً توازي تعريف "المجاعة"، في حين أن أقل من 30% من سكان غزة تلقوا الحد الأدنى من المساعدات الغذائية التي يحتاجونها خلال الشهرين الماضيين، هذا ليس مجرد فشل في الإغاثة، بل شهادة قاسية على تواطؤ الزمن مع الحصار.

هنا، لا يُقاس الزمن بالساعات، بل بعدد الأرواح التي تنطفئ في كل يوم تأخر فيه كيس دقيق، أو شحنة حليب، أو فرصة حياة الجوع لم يعد استثناءً في غزة، بل صار نظاماً.

ورغم أن المواثيق الدولية تحظر استخدام الجوع سلاحاً، فإن الواقع في غزة يقول عكس ذلك، بحسب منظمات حقوقية مستقلة، فإن السياسات الإسرائيلية في منع دخول المواد الغذائية والدوائية، وتعطيل عمل قوافل الإغاثة، وتحويل خطوط الإمداد إلى أدوات تحكُّم سياسي وميداني، كلها تندرج ضمن جرائم الحرب، ورصدت تقارير عدة من "هيومن رايتس ووتش" و"مجلس حقوق الإنسان" حالات موثقة لاستخدام الحصار وسيلةً للضغط العسكري، والسكان رهائنَ.

المشهد الإنساني داخل غزة لا يكتفي بأن يكون كارثياً، بل بات سريالياً في قسوته، أحد الآباء، كما ينقل محمد، قال: "نخرج كل صباح، نوهم أطفالنا بأننا ذاهبون لإحضار الطحين، نعود مساءً حين نعلم أنهم ناموا، كي لا يلاحظوا أننا عدنا بلا شيء"، هذا ليس سلوكاً فردياً، بل استراتيجية بقاء لكثير من الأسر، طريقة لتأجيل السؤال الذي لا جواب له: "ماما، شو بدنا نتعشى اليوم؟".

يقول العروقي: "إن أغلب الأطفال يعانون من الهزال الشديد ونقص الفيتامينات الأساسية، بعضهم لا يبكي من الجوع، لأن أجسادهم أصبحت معتادة عليه، فقط يحدقون في السقف بعينين ذابلتين، ينتظرون شيئاً لا يعرفون اسمه، لكنهم يعرفون أنه لا يأتي".

ويحدث أن يقف طفل عند نقطة توزيع طعام ويتوسل للجنود كي يدخل، لا يتلقى سوى رصاصة مطاطية في الفخذ أو صراخ يهينه أمام أمه.. في عالمٍ آخر كان هذا الطفل سيحمل حقيبته على ظهره، ويمضي إلى مدرسة، ويتعلم الفرق بين البروتين والكربوهيدرات في درس العلوم، أما في غزة؛ فالعلم الوحيد المتاح هو علم النجاة.

الحصار أداة تطهير

الجوع لا يميّز بين فصائل أو أيديولوجيات، لكنه يعرّي الجميع، ويطرح أسئلة مؤلمة: لماذا يُترك البشر ليموتوا من الجوع؟

وفق القانون الدولي الإنساني، وتحديداً المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقات جنيف، فإن "تجويع المدنيين أسلوب من أساليب القتال محظور"، لكن الحصار يُحكم فعلياً عند بوابة معبر كرم أبو سالم، فحين يُحتجز الغذاء، يُحتبس معه نبض الحياة لأرواح المدنيين.

منظمات مثل "أطباء بلا حدود" تحذر من توالي الوفيات الجماعية إذا استمر حصار الغذاء دون تغيير، في حين واجهت منظمة "وورلد سنترال كيتشن" هجوماً مباشراً في أبريل 2024 أسفر عن مقتل سبعة موظفين رغم تنسيقها مع القوات، ما أدى إلى انسحاب منظمات إنسانية عدة أو تقليص نشاطها. بات الناس في غزة لا يُطالبون فقط بالطعام، بل بضمانات لحمايتهم حتى في أثناء تسلم المساعدات.

وفي غرفة ضيقة داخل مشفى كمال عدوان، كانت الكاميرا تنقل الواقع بلا تعليق، وكأنها تعجز عن مجاراة الألم الذي يسكن المكان.. جدران باهتة، أَسِرّة حديد عارية إلا من أجساد صغيرة نحيلة، وأمهات يتهامسن بصوت مكسور، بلا دموع، وحده الطبيب عماد دردونة كسر الصمت، إذ ظهر في تقرير وثّقته وكالة رويترز، يتحدث وعيناه منهكتان، وصوته لا يخلو من الحشرجة.

أكثر من نصف الأطفال الذين يصلون إلى المستشفى لا يُعالجون كما يجب، نحن نكتفي بالمحاليل السكرية أو الملحية. لا حليب، لا مكملات غذائية، لا فيتامينات، المؤلم أننا لا نستطيع إنقاذ أكثر من 50 إلى 60% من الحالات.

كانت كلماته مثل مشرطٍ يجرح في الهواء لا يصرخ، لا يندب، بل يُسجّل بصوت الطبيب الذي بات يحفظ شكل الموت حين يأتي على هيئة جوع خلفه، مشهد لا يحتاج إلى وصف: أجساد لأطفال تجمدوا في منتصف طريق النمو، عيونهم زجاجية لا تطرف، كأنهم خرجوا من رحم الحصار لا من بطون أمهاتهم، ثم يضيف، كمن يكتب مرثية لا تنتهي:

"نحن لا نُعالج أطفالاً مرضى، بل نُقاوم جوعاً مُبرمجاً، نكتب وصية الحياة على حافة غرفة إنعاش لا شيء فيها سوى الأمل المعلّق.

شهادة عماد دردونة لم تكن حالة منفردة، بل مرآة لمأساة جماعية، منظمة أطباء بلا حدود، في تقرير نشرته صحيفة الغارديان، وصفت الوضع بأنه انهيار شامل في التغذية، مشيرة إلى أن حالات سوء التغذية الحاد للأطفال تضاعفت ثلاث مرات خلال أسبوعين فقط، وأكدت أن ربع الأطفال الذين يُعرضون على العيادات يعانون من نقصٍ غذائيٍ مهددٍ للحياة، لكن الحقيقة الأعمق تكمن في التاريخ؛ فالجوع في غزة لم يكن نتيجة الحرب وحدها؛ فمنذ عام 2007، بدأت إسرائيل بتطبيق ما عُرف لاحقاً بسياسة "السعرات المحسوبة"، حيث يُقنن دخول الغذاء وفق معادلة تضمن بقاء السكان أحياء، دون أن يكون لهم نصيب من الكرامة، وثائق مسرّبة عام 2012 أكدت أن هذه السياسة صيغت بعناية، لا لرفع الحصار بل لترويض الأجساد.

واليوم، تستمر العيادات والمستشفيات في غزة في محاولة "ردم الفراغ" الذي تتركه البطون الخاوية، الشاحنات التي يُعلن عن إدخالها لا تكفي، والغذاء حين يصل، يصل متأخراً، وناقضاً لفعل الإنقاذ.

في الغارديان، كتبت الصحفية البريطانية بيثان مكيرنان من قلب غزة، الجوع في غزة ليس حالة طارئة، بل سياسة واضحة. رأيت أطفالاً بعظامهم البارزة، وآباء يبيعون ما تبقى من الأمل مقابل رغيف.

حين تتعرّى إنسانية العالم

الباحثة المتخصصة في الشأن الفلسطيني-الإسرائيلي، إيمان بخيت، روت أن الحرب الإسرائيلية على غزة لم تكن فقط معركة عسكرية، بل كانت لحظة تاريخية كاشفة لقد أسقطت القناع عن الوجه الحقيقي لما يُسمى بالمجتمع الدولي، وكشفت الكذبة الكبرى التي يُروّج لها منذ عقود: كذبة الإنسانية، وكذبة حقوق الإنسان، وكذبة الضمير العالمي.

تتابع بخيت في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، قائلة: "حين فشلت إسرائيل في إخضاع غزة عبر القصف، لجأت إلى أقسى ما يمكن أن تبتكره آلة الحرب وهو سلاح التجويع. هذا السلاح لا يصدر صوتاً، لكنه يُنهي حياة الناس ببطء قاتل. منذ نحو عامين، لا يموت سكان غزة بالقنابل فقط، بل يموتون عطشاً، وجوعاً، وإهمالاً متعمداً. أطفال بلا غذاء، نساء بلا دواء، شيوخ يموتون على أعتاب المستشفيات".

وترى بخيت هذا التجويع لا يُمارَس في الخفاء، بل أمام أعين "العالم المتحضر" الذي طالما قدّم نفسه حارساً للعدالة الدولية الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، التي طالما تباهت برفضها الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، لم تكن غائبة عن المشهد، بل كانت شريكاً بالصمت، وبالفيتو، وبالدعم السياسي والعسكري غير المشروط لإسرائيل، تقول بخيت: "إنه ليس فقط صمتاً، بل تواطؤ مع الإبادة.. كيف يمكن لعالم يزعم الدفاع عن الطفل الأوكراني أن يغض الطرف عن الطفل الفلسطيني الذي يموت جوعاً؟".

وتضيف "المجتمع الدولي مسؤول عن استمرار هذا الحصار القاتل لعدة أسباب، أولها أنه لم يفرض أي عقوبات حقيقية أو إجراءات ردعية ضد إسرائيل، بل وفّرت دول، مثل أمريكا، غطاء سياسياً يحميها من أي مساءلة. وثانياً: الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحوّلا إلى مؤسسات مشلولة، تفقد فاعليتها مع كل فيتو أمريكي، وتكتفي بالتنديد دون أن تملك أدوات التنفيذ".

تشرح بخيت أن التجويع ليس فقط وسيلة ضغط، بل هو استراتيجية ممنهجة تُستخدم لإرغام السكان على الاستسلام أو الرحيل "حين يُمنع عنك الطعام والدواء والمياه، لا يصبح لديك خيار سوى الهروب أو الانهيار"، تقول.. وتتابع: "الهدف ليس فقط سحق المقاومة، بل تفريغ الأرض من سكانها، وإجبارهم على النزوح تحت ضغط الحاجة والنجاة".

من بين أكثر الفئات تضرراً: الأطفال؛ إذ يتحول الجوع بالنسبة إليهم من معاناة إلى خطر وجودي. تشير بخيت إلى أن سوء التغذية المزمن يؤدي إلى اضطرابات في النمو العقلي والجسدي، ويجعل الأطفال أكثر عرضة للأمراض المعدية. تقول، "بدأنا نشهد حالات شلل أطفال ونقص حاد في المناعة وأمراض مزمنة سترافق هؤلاء الأطفال مدى الحياة، وتحكم عليهم بفقر وعزلة واضمحلال دائم".

ورغم الجهود التي تبذلها منظمات إنسانية مثل الصليب الأحمر والأمم المتحدة، فإن هذه المحاولات -كما ترى بخيت- تصطدم بجدار الحصار والمنع الإسرائيلي، وتُفرغ من معناها أمام القصف والتهديد الذي يطول –حتى- قوافل المساعدات. "هذه المنظمات تعمل في ظروف مستحيلة، في ظل نقص التمويل، وخطورة التنقل، وقيود المعابر"، تقول بخيت، مؤكدة أن الأزمة تتطلب ما هو أكبر من مجرد إغاثة: "إنها تحتاج إلى قرار سياسي عالمي لإنهاء الحصار لا لتخفيفه فقط".

وفي ختام حديثها، تؤكد بخيت أن ما يجري في غزة ليس فقط مجاعة، بل فشل تاريخي للنظام الحقوقي الدولي، اتفاقات جنيف التي تحرّم استخدام الحصار والتجويع ضد المدنيين، تحوّلت إلى نصوص مجوّفة، لا تُطبَّق ولا يُحاسب من يخالفها. "العدالة الدولية تُمارَس بانتقائية"، تقول: "وحين يتعلق الأمر بفلسطين، تختفي كل المبادئ".

ثم بصوتٍ تختلط فيه الغصة بالغضب، تختم بخيت: إن ما نشهده اليوم في غزة ليس فقط تجويعاً لشعب، بل إعدامٌ بطيء لفكرة العدالة في هذا الجوع، تتعرّى الإنسانية ويُكشَف الجميع.

صمت العالم خيانة جماعية

من داخل ليل غزة المُطبق، يعود للحديث محمد العروقي كأنّ روحه تنطق لا لسانه، كل جملة منه ليست وصفاً، بل ندبة، وكل نَفَسٍ يحمل معه صوت أطفال فقدوا القدرة على البكاء، لأن الجوع سرق دموعهم أيضاً. في شهادته، لا حديث عن معاناة عابرة، بل عن موتٍ ممنهج يُمارس بصمت، عن انهيار أخلاقي عالمي، عن حصارٍ لم يترك مساحة حتى لليأس، هذه ليست كلمات تقرير، بل نبض حياةٍ تحتضر.

ويقول العروقي: إن ما يجري في غزة الآن ليس أزمةً فحسب، بل انهيار كامل للمنطق الإنساني، ما نحن فيه تجاوز مراحل التحذير والخطوط الحمراء، لم يعد هناك اسم يُطلق على هذا الذي نعيشه، نحن لا نعيش أصلاً، نحن نُسحق ببطء.

وينهي حديثه، قائلاً: الضحايا هنا ليسوا أرقاماً، هؤلاء أطفال، أحياء من لحم ودم، تلاشى وزنهم حتى صار الجلد يلتصق بالعظم، أقسم أن العدد الحقيقي لمن مات من الأطفال أكبر بكثير من المعلن، نحن نراهم، نشهد نُحولهم، نسمع بكاءهم يخفت يوماً بعد يوم، إلى أن يصمت تماماً، ليست فقط المجاعة من تفتك بهم، بل الأمراض الناتجة عنها أيضاً. أمراض معدية، وفيروسية، وجلدية، وأخرى ناتجة عن انعدام النظافة والمياه النظيفة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية