مدارس غزة بين الركام والأمل.. أطفال يعودون إلى التعليم بعد عامين من الحرب
مدارس غزة بين الركام والأمل.. أطفال يعودون إلى التعليم بعد عامين من الحرب
وسط أنقاض الأبنية وأصوات الإعمار المتعثّر، عاد تلاميذ مدرسة الحساينة في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة إلى صفوفهم، في مشهد تختلط فيه ملامح الألم بالأمل، ورغم ما يعانيه القطاع من دمار واسع خلفته الحرب الأخيرة، أعلنت الأمم المتحدة بدء إعادة فتح المدارس والمؤسسات التعليمية بشكل تدريجي، في خطوة تعدّ رمزية وإنسانية في آن واحد.
أفادت وكالة فرانس برس السبت بأن مشاهد الفتيات الصغيرات وهنّ يتجمعن في ساحة المدرسة مرددات "عاشت فلسطين" شكّلت لحظة نادرة من الفرح في مدينة أنهكتها الحرب والحصار. ورغم غياب المقاعد والطاولات، جلست التلميذات على الأرض، ينسخن الدروس من اللوح، في حين يملأ وجوههنّ إصرار هادئ على استعادة ما فقدنه من سنوات التعليم.
بداية جديدة بعد عامين من الانقطاع
جاءت العودة إلى مقاعد الدراسة بعد عامين من الانقطاع القسري الذي فرضته الحرب المدمّرة التي اندلعت على قطاع غزة عقب هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وما تلاه من عمليات عسكرية خلّفت آلاف القتلى والجرحى ودماراً هائلاً في البنية التحتية المدنية، منها المدارس والمستشفيات ومقار الأمم المتحدة.
وأكد المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازاريني أن الوكالة بدأت بإعادة فتح "مساحات تعلم مؤقتة" في عدد من الملاجئ والمراكز المجتمعية، مشيراً إلى أن أكثر من 25 ألف تلميذ التحقوا بالفعل بهذه الفصول المؤقتة، في حين يتلقى نحو 300 ألف تلميذ تعليمهم عبر الإنترنت.
وأضاف لازاريني أن عودة التعليم في غزة "ليست مجرد خطوة إدارية، بل رسالة أمل"، لافتاً إلى أن كثيراً من المدارس ما زالت مأوى لآلاف النازحين الذين فقدوا منازلهم في الحرب، وأن جزءاً كبيراً من البنية التعليمية يحتاج إلى إعادة بناء شاملة.
تلاميذ فوق الركام
تبدو مدرسة الحساينة مثالاً مصغراً لحال التعليم في غزة، فالجدران متصدعة، والنوافذ مكسورة، وممرات ما زالت تتقاطع فيها آثار النزوح والحياة اليومية، وتمتد الحبال التي تُستخدم لنشر الغسيل على الواجهات، في حين يتقاسم المبنى ذاته طلاب يسعون للعلم ونازحون يبحثون عن مأوى.
داخل الصفوف، عشرات الفتيات يجلسن على الأرض وبأحضانهن دفاتر مهترئة، يتابعن بشغف شرح المعلمة التي تحاول بوسائل بسيطة أن تعيد إليهنّ الشعور بالاستقرار، وتقول وردة رضوان، الطفلة ذات الأحد عشر عاماً، إنها خسرت سنتين من تعليمها بسبب الحرب والنزوح، لكنها اليوم تشعر بأنها تستعيد شيئاً من حياتها.
سباق مع الزمن لإنقاذ جيل كامل
المدير الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في الشرق الأوسط، إدوارد بيجبيدير، حذر من أن المجتمع الإنساني يواجه "سباقاً مع الزمن" لإعادة التعليم إلى صلب الأولويات في قطاع غزة، وقال في تصريحات حديثة إن التأخر في إعادة فتح المدارس يهدد بترك جيل كامل من الأطفال من دون تعليم، ما ستكون له عواقب اجتماعية وإنسانية خطيرة على المدى الطويل.
تشير تقارير اليونيسف إلى أن أكثر من 80 بالمئة من مدارس غزة تعرضت لأضرار مباشرة أو غير مباشرة خلال الحرب، وأن نحو 70 بالمئة من الأطفال في القطاع بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي نتيجة الصدمات التي عاشوها، كما أن أكثر من مليون طفل في غزة يواجهون صعوبة في الوصول إلى التعليم المنتظم أو البيئة المدرسية الآمنة.
المعاناة اليومية داخل المدارس المهدمة
في ظل غياب البنية الأساسية، تعتمد الأونروا واليونيسف ومنظمات إنسانية أخرى على حلول مؤقتة، مثل إقامة خيام دراسية وتخصيص مساحات في الملاجئ للتعليم الطارئ. بعض الأطفال يتلقون دروسهم على السلالم أو في باحات غير مغطاة، في حين تعمل المبادرات المحلية على جمع مواد تعليمية بسيطة لتلبية الاحتياجات الأساسية.
الأونروا أوضحت أن مئات المدارس تحولت خلال الحرب إلى ملاجئ طارئة تؤوي عشرات الآلاف من العائلات، ما أدى إلى تضررها بشدة، ومع استمرار أزمة الكهرباء وشح المياه والوقود، فإن عودة الدراسة بشكل طبيعي ما زالت تواجه عقبات لوجستية كبيرة.
المنظمات الحقوقية: التعليم حق لا يُعلّق بالحرب
منظمات حقوق الإنسان الدولية، ومنها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، أكدت في بيانات متزامنة أن تدمير المدارس واستهداف المرافق التعليمية يشكلان انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، ودعت هذه المنظمات جميع الأطراف إلى ضمان حماية الأطفال والمدارس من أي أعمال عدائية، مؤكدة أن التعليم حق أساسي لا يجوز تعليقه حتى في أوقات النزاع.
كما أشارت منظمات الأمم المتحدة إلى أن أي تأخير في إعادة التعليم يعني مضاعفة الأثر النفسي للحرب في الأطفال، إذ إن المدرسة تمثل بالنسبة لهم أكثر من مكان للتعلم؛ إنها مساحة للعودة إلى الروتين، وبداية لاستعادة الإحساس بالأمان والانتماء.
القانون الدولي ومسؤولية الحماية
ينص البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف على وجوب حماية المرافق التعليمية والمدنيين أثناء النزاعات المسلحة، ويعد استهداف المدارس عمداً أو استخدامها لأغراض عسكرية انتهاكاً قد يرقى إلى جريمة حرب، وفي هذا السياق، دعت الأمم المتحدة إلى فتح تحقيقات مستقلة في استهداف المرافق التعليمية خلال الحرب الأخيرة في غزة، مؤكدة أن المساءلة جزء أساسي من أي عملية تعافٍ مستدامة.
وفي الوقت ذاته، شددت المنظمات الإنسانية على ضرورة أن تلتزم إسرائيل وحركة حماس على حد سواء بقواعد القانون الدولي الإنساني مع توفير ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية، ومنها المواد التعليمية والأدوات اللازمة لاستئناف الدراسة.
الأبعاد الإنسانية والاجتماعية للعودة
عودة الأطفال إلى الصفوف الدراسية في غزة لا تعني فقط استئناف الدراسة، بل تمثل بداية عملية تعافٍ مجتمعي أوسع. فالتعليم هنا يحمل معنى البقاء والعودة إلى الحياة الطبيعية، رغم فقدان المنازل والأهل والأصدقاء، والمعلمون أنفسهم يعملون وسط ظروف قاسية، إذ يعانون نقص الرواتب والإمدادات، لكنهم يواصلون التدريس بصفته فعل مقاومة وصموداً إنسانياً.
المجتمعات المحلية بدورها تنظم جهوداً تطوعية لترميم المدارس وتنظيفها وتوفير بيئة مناسبة للتلاميذ، والنساء يلعبن دوراً محورياً في هذا الحراك المجتمعي، إذ تشرف أمهات ومعلمات على مبادرات لتوزيع اللوازم المدرسية على الطلاب الذين فقدوا كل شيء.
منذ عام 2007، يعيش قطاع غزة تحت حصار مشدد أثّر في جميع القطاعات، ومنها التعليم، ومع تكرار جولات التصعيد العسكري، تضررت مئات المدارس، وقد وثقت الأمم المتحدة أن حروب غزة منذ 2008 تسببت في مقتل آلاف الأطفال وتدمير جزء كبير من البنية التعليمية، في حين يعاني القطاع من أحد أعلى معدلات البطالة والفقر في العالم.
على مدى السنوات الماضية، حاولت الأونروا واليونيسف تعويض الخسائر عبر برامج التعليم في الطوارئ، إلا أن حجم الدمار في حرب 2023 جعل التحديات أكبر من أي وقت مضى، فإعادة بناء المدارس تحتاج إلى تمويل ضخم وإلى استقرار سياسي وأمني.
تجسد مشاهد التلاميذ في مدرسة الحساينة جوهر معركة الفلسطينيين اليومية من أجل الحياة، وبين الدمار والحرمان، يصر أطفال غزة على مواصلة التعلم مقاومة للواقع القاسي، في حين يقف المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي لقدرته على حماية حقوق الإنسان الأساسية، وفي مقدمتها حق الطفل في التعليم والأمان.










