انهيار اقتصادي يهدد الملايين.. تصاعد الفقر في إيران يدفع المدن إلى حراك عمالي

انهيار اقتصادي يهدد الملايين.. تصاعد الفقر في إيران يدفع المدن إلى حراك عمالي
عمال في إيران بانتظار الحصول على عمل

تتجه إيران نحو واحدة من أخطر مراحلها الاجتماعية والاقتصادية منذ عقود، حيث تتصاعد أزمة الجوع بين ملايين المواطنين بالتزامن مع موجة احتجاجات عمالية واتساع غير مسبوق للفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة، ومع ارتفاع الأسعار وفشل السياسات الحكومية في وقف الانهيار المعيشي، يجد الإيرانيون أنفسهم أمام مشهد يومي تتقاطع فيه المعاناة الإنسانية مع غضب اجتماعي يزداد حدة في المدن والقطاعات العمالية.

التدهور الاقتصادي وتهديد الحقوق الأساسية

كشف الخبير الاقتصادي حسين راغفر، وهو من الأصوات المقربة من السلطة الإيرانية، في تصريحات صحفية أوردها موقع "خبر أونلاين" عن أرقام صادمة تضع الوضع الغذائي في إيران في مستوى مقلق، فقد أكد أن سبعة ملايين شخص يعانون من سوء التغذية والجوع، وأن نحو عشرة في المئة من إجمالي السكان لا يحصلون على الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة، حتى لو أنفقوا كامل دخلهم على الغذاء، وذهب أبعد من ذلك حين حذر من إمكانية ارتفاع هذه النسبة إلى أربعين في المئة إذا استمر الوضع الراهن دون تدخل.

ووصف راغفر الأزمة بأنها نتيجة نظام تمييزي في توزيع الموارد والفرص، حيث تتراكم الثروة لدى فئة صغيرة قريبة من مراكز النفوذ، واعتبر أن هذا الاختلال أنتج طبقة ضيقة شديدة الثراء تتحكم في السياسات الاقتصادية، في حين تتدهور أحوال الطبقات المتوسطة والفقيرة، ولم يتردد في تشبيه المشهد الحالي بسنوات الجوع التي عاشتها إيران خلال الحرب العالمية الأولى، مؤكدا أن أسباب الأزمة اليوم داخلية بالكامل، تعود إلى الطمع وسوء الإدارة.

كما ذكر الكاتب حسين حقكو، بصحيفة "شرق" الإصلاحية، أن إيران تُواجه خيارًا مصيريًا بين نهج الصراع والعزلة الذي يقود إلى التدهور الاقتصادي ويُهدد الحقوق الأساسية، ونهج الانفتاح والتعاون الدولي، الذي يضمن الرفاهية ويوفر فرص عمل لائقة للشباب ويحول دون تكرار مآسٍ كتلك التي أدت إلى انتحار أحد شباب الأحواز.

أبعاد صحية كارثية

لا تقتصر أزمة الغذاء في إيران على مؤشرات الجوع، بل تمتد إلى تدهور واضح في المؤشرات الصحية، فقد أفادت وسائل إعلام محلية في أكتوبر أن خمسة وثلاثين في المئة من حالات الوفاة في إيران مرتبطة بسوء التغذية، وتظهر بيانات وزارة الصحة وفاة عشرة آلاف شخص سنوياً بسبب نقص أحماض أوميغا ثلاثة، وعشرة آلاف بسبب غياب كافٍ للفواكه والخضروات، إضافة إلى خمسة وعشرين ألف وفاة ناتجة عن نقص الحبوب الكاملة.

كما يكشف خبراء الصحة أن ما بين خمسين وسبعين في المئة من السكان يعانون من نقص فيتامين د، وهو ما يضعف المناعة ويرفع مخاطر الأمراض المرتبطة بالعظام والمفاصل. ويأتي ذلك في وقت ترتفع فيه أسعار مواد أساسية مثل الخبز والزبادي، ما يزيد من صعوبة حصول الأسر الفقيرة على غذاء متوازن.

فجوة هائلة بين الأجور وتكاليف المعيشة

يؤكد العاملون في القطاع العمالي أن المشكلة لم تعد مقتصرة على أسعار الغذاء فحسب، بل أصبحت فجوة الدخل أكبر من أن تجسر، فقد أوضح الناشط العمالي فرامرز توفيقي أن تكلفة سلة المعيشة للأسرة بلغت نحو خمسمئة وثمانين مليون ريال، في حين حدد المجلس الأعلى للعمل الحد الأدنى للأجور في مارس 2025 بأقل من مئة وعشرة ملايين ريال، أي ما يعادل نحو مئة دولار فقط، وحتى بعد إضافة البدلات، لا يصل دخل العامل إلى أكثر من مئة وخمسين مليون ريال، وهو مبلغ لا يغطي سوى جزء ضئيل من الاحتياجات الأساسية.

هذه الفجوة دفعت ملايين الأسر إلى أسفل خط الفقر، وأجبرت الكثير من العاملين على العمل لساعات مضاعفة أو البحث عن وظائف إضافية لا تغطي في الغالب الحد الأدنى من المعيشة.

ارتفاع اللحوم واستحالة الوصول إليها

يتكرر المشهد ذاته في سوق اللحوم الذي أصبح رمزاً لتراجع القدرة الشرائية، فقد أكد منصور بوريان، رئيس مجلس تأمين الماشية، أن أسعار اللحوم المجمدة المستوردة من الهند والبرازيل ارتفعت إلى نحو ستة ملايين ونصف المليون ريال، رغم أن السعر المفترض يجب أن يكون أقل بكثير، ومع هذا الارتفاع، أصبحت اللحوم في متناول فئة محدودة فقط، في حين تعتمد الكثير من العائلات على بدائل أقل جودة.

وفي مقابل هذا الواقع، وفقاً لتصريحات راغفر، توجد مفارقات اقتصادية لافتة، منها إنفاق الحكومة نحو أربعة مليارات دولار على استيراد سيارات في العام الماضي، في وقت تعاني فيه البلاد نقصاً في العملة الأجنبية اللازمة لاستيراد الأدوية والمواد الأساسية، ويرى أن هذه السياسات تخدم النخبة الاقتصادية المرتبطة بالسلطة، في حين تدفع بالملايين نحو الجوع.

أرقام متناقضة وواقع أشد قتامة

في أكتوبر 2025، أعلنت الحكومة أن خط الفقر للفرد هو ستة ملايين تومان شهرياً، إلا أن خبراء اقتصاد اعتبروا هذا الرقم تضليلاً واضحاً، مؤكدين أن الأسرة الإيرانية المتوسطة تحتاج إلى نحو عشرين مليون تومان شهرياً لتأمين احتياجاتها الأساسية، وهذا التناقض بين الأرقام الرسمية والواقع المعيشي يفاقم انعدام الثقة بين المواطنين والسلطات.

وبحسب البيانات، يعيش نحو ستة وثلاثين في المئة من السكان تحت خط الفقر، أي ما يعادل ثلاثين مليون شخص، إلا أن تقديرات الخبراء ترجح أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير، في ظل الارتفاع المتسارع لأسعار السلع الأساسية والوقود والخدمات.

اتساع رقعة الاحتجاجات العمالية

ومع تفاقم الوضع الاقتصادي، تصاعدت موجة احتجاجات عمالية خلال الأسابيع الأخيرة، شملت موظفين حكوميين وعمالاً في قطاعات النفط والغاز والشؤون الاجتماعية والمتقاعدين، فقد نظم موظفو منظمة الشؤون الاجتماعية احتجاجات في أكثر من عشرين مدينة، مطالبين بتحسين أوضاع العمل ومكافحة التمييز في صرف المستحقات.

وفي مجمع الغاز بجنوب بارس، شارك ما يزيد على ثلاثة آلاف عامل في تجمع كبير للمطالبة بالمساواة في الأجور وإلغاء القيود على الرواتب والتعاقدات، كما واصل موظفو شركة النفط البحرية في منطقتي سيري ولافان اعتصاماتهم، في حين تجمع ممرضون وعاملون صحيون في مشهد لليوم الثاني احتجاجاً على تدهور أوضاعهم المعيشية.

في الوقت ذاته، تظاهر المتقاعدون في كرمانشاه أمام صندوق التقاعد الوطني للمطالبة بتحسين أوضاعهم وتطبيق خطة المساواة في الأجور، مؤكدين أن معاشاتهم الحالية لا تكفي لسد احتياجاتهم الأساسية.

مخاطر اجتماعية متصاعدة

تجمع هذه المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية صورة قاتمة لمستقبل قريب قد يشهد اضطرابات أوسع إذا لم تتخذ السلطات خطوات عاجلة لتخفيف حدة الأزمة، فإهمال مطالب الشارع، واستمرار السياسات التي تكرس الفوارق الطبقية، واتساع فجوة الدخل، جميعها عوامل قد تدفع البلاد نحو مزيد من الاحتقان الاجتماعي.

ويؤكد مراقبون أن استمرار الوضع دون إصلاحات هيكلية سيؤدي إلى تصاعد الاحتجاجات العمالية وتحولها إلى موجات غضب كبرى في مختلف المدن، خاصة مع اتساع دائرة الجوع وتراجع قدرة الأسر على تأمين احتياجاتها اليومية.

تعاني إيران منذ سنوات من ضغوط اقتصادية متراكمة نتيجة العقوبات الدولية وسوء الإدارة وتراجع العائدات النفطية، وقد أدت سياسات الدعم غير المتوازن وغياب الشفافية الاقتصادية إلى اتساع فجوة الدخل وارتفاع معدلات الفقر، كما أثرت التقلبات في سعر العملة المحلية على أسعار السلع بشكل مباشر، ما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين، وخلال العقد الأخير، شهدت البلاد موجات احتجاجية متعددة مرتبطة بالوضع المعيشي، أبرزها احتجاجات 2017 و2019 التي رفعت شعارات مرتبطة بالبطالة وارتفاع الأسعار، ومع استمرار العقوبات وتراجع قدرة الدولة على إدارة الملفات الاقتصادية، يتوقع خبراء أن تشهد البلاد مزيداً من الضغوط الاجتماعية إذا لم تُتخذ خطوات ملموسة لمعالجة جذور الأزمة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية