وسط فوضى أمنية.. تصاعد العنف في سوريا وسط غياب الردع وقلق متفاقم بين المدنيين
وسط فوضى أمنية.. تصاعد العنف في سوريا وسط غياب الردع وقلق متفاقم بين المدنيين
شهدت سوريا خلال الأسابيع الأخيرة موجة متصاعدة من الجرائم وأعمال العنف في ظل غياب شبه كامل للمرجعيات القانونية وضعف ملموس في أداء المؤسسات الأمنية والقضائية، وهذا الواقع ليس جديدا في البلاد التي أنهكتها سنوات الحرب، لكنه يتخذ اليوم شكلا أكثر قسوة مع ارتفاع عدد الضحايا وتزايد الحوادث التي تعكس حالة انفلات واسع، ويجد المدنيون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع تبعات هذا الانهيار، من دون مظلة حماية تضمن لهم حدًا أدنى من الأمان.
الأرقام التي وثقها المرصد السوري لحقوق الإنسان خلال النصف الأول من شهر نوفمبر الجاري ونشرها على موقعه الأحد تكشف عمق الأزمة، فقد قُتل أربعون شخصا بينهم ست نساء خلال فترة قصيرة ملتصقة بأجواء من العنف المنفلت، بينهم أربع عشرة ضحية سقطوا على خلفيات طائفية في مناطق مختلفة من سوريا، وتتنوع الجرائم بين دوافع انتقامية وأخرى طائفية إضافة إلى جرائم جنائية واسعة النطاق. هذه الصورة تعكس تجذرا للفوضى في مجتمعات أنهكتها الانقسامات وافتقدت إلى آليات الردع القانونية.
غياب المساءلة وتراجع دور المؤسسات
لا تقف المأساة عند عدد الضحايا، بل تتجاوزها إلى غياب الخطوات الجادة لمكافحة الجريمة أو البت في ملفات القتل، فمناطق سيطرة الحكومة الانتقالية تفتقر إلى إجراءات واقعية للتعامل مع الانفلات الأمني، وتبدو التحقيقات إما غائبة تماما أو متوقفة عند حدود ما لا يلامس الحقيقة، وفي ظل هذا الوضع تنفذ جرائم التصفية والاغتيالات من دون أن تتبعها مساءلة، ما يترك الرسالة الأكثر خطورة على الإطلاق وهي أن الجناة قادرون على الإفلات من العقاب.
ما يرصده الأهالي والمنظمات الحقوقية يضع مؤسسات الأمن والقضاء أمام صورة قاتمة، فهذان القطاعان اللذان يفترض أن يشكلا حجر الأساس لحماية المدنيين وتثبيت سيادة القانون في سوريا، يخسران اليوم ثقة السكان في مناطق واسعة من البلاد، ومع كل حادثة جديدة تتعزز القناعة بأن الأجهزة المعنية باتت عاجزة عن لعب دورها التقليدي، أو أنها فقدت القدرة على التعامل مع ديناميات الصراع بعد أكثر من عقد على اندلاع الأزمة السورية.
حادثة اختفاء جديدة تزيد القلق
في مدينة الرقة تحديدا، تجددت المخاوف مساء أمس السبت بعد حادثة اختفاء شابة تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما في منطقة تقع شرق مركز المدينة، وقد غادرت الفتاة منزلها نحو إحدى البقالات لشراء مستلزمات بسيطة قبل أن تختفي بصورة مفاجئة، وعلى الرغم من أن المنطقة ليست نائية أو معزولة فإن اختفاءها تم في وقت قصير ومن دون أي شهود قادرين على تقديم رواية واضحة.
هذا الحدث جاء بعد أيام من مقتل معلمة في المدينة في الرابع عشر من الشهر ذاته، ما أعاد تسليط الضوء على المخاطر التي تواجه النساء تحديدا في مناطق تعاني من ضعف الإمكانات الأمنية، وتتزايد أصوات الأهالي التي تطالب بوجود أمني أكبر وإجراءات صارمة، خصوصا أن الاعتداءات على النساء باتت تتكرر بوتيرة تثير الهلع.
السكان بين الخوف وضياع الثقة
تشير شهادات من داخل الرقة إلى أن الحالة النفسية للسكان تزداد سوءا بفعل الأحداث الأخيرة، فالخوف من خروج النساء أو الأطفال في ساعات المساء أصبح هاجسا عاما، ويؤكد الأهالي أن غياب الحضور الأمني لا يعني فقط ضعف الإمكانات بل يعكس تغييرا في طبيعة السيطرة على المدينة، ومع كل حادثة جديدة يصبح الشعور بانعدام الأمان أكثر حضورا، بينما تتسع دائرة القلق لدى النساء اللاتي يشعرن بأنهن الحلقة الأضعف في وقت باتت فيه الجريمة أكثر جرأة.
المرصد يحذر من المشهد المتدهور
حذر المرصد السوري لحقوق الإنسان من أن البيئة الراهنة في سوريا باتت بيئة مغلقة على العنف، فانتشار السلاح بين المدنيين وغياب القانون وغياب التحرك الحكومي الجاد للجمع بين التحقيق والعدالة، كلها عوامل تخلق ظروفا مثالية لإعادة إنتاج العنف، ويشير المرصد إلى أن الاعتداءات لن تبقى حدثا عرضيا إذا استمر الإفلات من العقاب، بل ستتحول مع الوقت إلى نمط متكرر يضرب النسيج الاجتماعي ويعمق الشروخ التي أنتجتها الحرب.
ويؤكد المرصد أن غياب الردع القانوني يفتح الباب أمام موجة جديدة من الانتهاكات التي قد تشمل جرائم قتل وخطف واعتداءات ذات طابع اجتماعي وطائفي، وتأتي هذه التحذيرات في وقت تواجه فيه سوريا مستويات متصاعدة من التوترات الاقتصادية والسياسية، ما يجعل المجتمع أكثر هشاشة أمام التوترات الأمنية.
وجدد المرصد السوري مطالبته للسلطات بضرورة فتح تحقيقات شفافة وجدية في الجرائم المرتكبة، ويؤكد أن الوصول إلى حقيقة ما يجري ومعرفة هوية الجناة خطوة أساسية لا يمكن الالتفاف عليها إذا أرادت البلاد وقف دوامة العنف، فالمحاسبة هي السبيل الوحيد لإعادة الثقة المفقودة بين المواطن والمؤسسات، وهي حجر الزاوية في أي مشروع لإعادة بناء القانون.
كما يرى المرصد أن تعزيز القرارات الأمنية يجب أن يترافق مع إعادة تأهيل المؤسسات القضائية والأمنية، وهي عملية تتطلب إرادة سياسية وإمكانات مادية ومقاربة مهنية لا تركز على رد الفعل اللحظي، بل على بناء منظومة حماية مستدامة.
ضرورة استعادة الشعور بالأمان
يحتاج المجتمع السوري اليوم إلى معالجة عميقة لمصادر الخوف. فالخطر الحقيقي لا يكمن في الجرائم ذاتها فقط، بل في التداعيات النفسية والاجتماعية التي تتركها، فمن يعيش في بيئة غير آمنة يطور استعدادا أعلى للعنف سواء دفاعا عن الذات أو نتيجة لانهيار الثقة، ومع استمرار هذا الوضع سيصبح الخروج من دائرة العنف أكثر صعوبة، خصوصا بين فئات الشباب التي لم تعرف سوى واقع الحرب والفوضى.
ويمثل تعزيز سيادة القانون وتحديث أدوات عمل المؤسسات الأمنية خطوة محورية في منع الانحدار نحو مزيد من الفوضى، ويتطلب ذلك إجراءات واضحة تشمل إغلاق الأسواق السوداء للسلاح وتشديد الرقابة على حركة السلاح الفردي وتفعيل دور الشرطة المجتمعية ووحدات حماية الأسرة، إضافة إلى بناء قنوات تواصل مباشرة مع السكان لتعزيز دورهم في الإبلاغ عن الجرائم.
الرقة نموذجاً للقلق السوري
ما يحدث في الرقة اليوم ليس معزولا عن السياق العام في البلاد، فالمحافظة التي شهدت صراعات متعددة في السنوات الماضية تعاني اليوم من آثار مركبة تشمل ضعف الإدارة المحلية وتعدد الجهات ذات النفوذ وانتشار السلاح، وتبدو هذه الظروف مثالية لارتفاع معدلات الجريمة في وقت تجد فيه المؤسسات الحكومية صعوبة في فرض إجراءاتها.
ويرى خبراء أن الحل في الرقة يجب أن ينطلق من إعادة ضبط العلاقة بين الجهاز الأمني والمجتمع المحلي، فالمواطنون الذين فقدوا الثقة بحاجة إلى مؤشرات ملموسة تؤكد أن القانون حاضر وأن الجريمة لن تبقى بلا عقاب، ومن دون ذلك ستتحول الرقة إلى نموذج يعكس مستقبل مناطق أخرى تمر بالظروف ذاتها.
شهدت سوريا منذ عام 2011 تحولات عميقة في بنيتها الأمنية نتيجة النزاع المسلح وتغير خريطة السيطرة، وأدى انهيار عدد من المؤسسات إلى فراغ أمني واسع في مناطق مختلفة، ما سمح بظهور جرائم ذات طابع جنائي وطائفي وانتقامي، وفي السنوات الأخيرة أصبحت منظمات حقوق الإنسان المصدر الأبرز لرصد الجرائم نتيجة ضعف المؤسسات الرسمية، وتزداد المخاطر في المناطق التي تشهد تعددا في السلطات أو نقصا في التمويل والخدمات، بينما يتكرر التحذير من أن استمرار هذا الوضع سيجعل معالجة العنف أكثر صعوبة مع مرور الوقت.








