أزمة التضخم في إيران.. أسس التماسك الاجتماعي تتآكل تحت ضغط الأسعار
أزمة التضخم في إيران.. أسس التماسك الاجتماعي تتآكل تحت ضغط الأسعار
لم يعد التضخّم في إيران مجرّد رقمٍ يُعلن في تقارير المصارف أو مؤشرًا اقتصاديًا يُناقش في نشرات الأخبار، بل تحوّل إلى قوةٍ خفيّة تُعيد تشكيل حياة ملايين البشر، وتضغط على علاقاتهم، وتفتك باستقرارهم النفسي والاجتماعي، لتصير الأسعار المتقلّبة شكلًا جديدًا من أشكال المعاناة اليومية.
وبينما اعتادت الشعوب أن تواجه التضخم بتقليص مصروفاتها، فرض الواقع الإيراني خلال خمسة عقود من التضخم المزمن واقعًا أكثر قسوة.. تآكل الثقة، وانهيار القيم الجماعية، وصعود مشاعر العجز والخوف من المستقبل.
وتسلّط دراسة أكاديمية حديثة الضوء على هذا البعد الإنساني والاجتماعي الخطير، مؤكدة أن ما تعيشه إيران اليوم يتجاوز حدود الأزمة الاقتصادية ليصل إلى أزمة في المعنى والهوية والروابط الإنسانية، بحسب ما ذكرت شبكة "إيران إنترناشيونال"، اليوم الأحد.
تضخّم يتجاوز الاقتصاد
أظهرت دراسة حديثة أعدّها أساتذة علم الاجتماع في جامعة بوعلي سينا بمدينة همدان -جواد أفشاركهَن، ومحمد تقي سبزهاي وإسماعيل بلالي- أن التضخم المزمن في إيران لم يعد ظاهرة مرتبطة بالسياسات الاقتصادية فقط، بل تحوّل إلى ما وصفه الباحثون بـ"دورة لإعادة إنتاج القضية الاجتماعية".
ووفقًا للدراسة المنشورة في الدورية الأكاديمية "أبحاث علم الاجتماع المعاصر"، فإن ارتفاع الأسعار بشكل مزمن ولمدة تقارب خمسة عقود أدّى إلى إضعاف أسس التماسك الاجتماعي، وتحويل الحياة اليومية إلى حالة من القلق الدائم وعدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل.
وتستند الدراسة إلى بيانات رسمية صادرة عن البنك المركزي الإيراني، تُظهر أن معدلات التضخم السنوية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم ظلت في أغلبها عند مستويات مزدوجة الأرقام، بل وصل في بعض السنوات إلى حدود 50%، وهو ما جعل التضخم يتحول من عرضٍ عابر إلى خطرٍ بنيوي دائم.
الخوف وعدم الأمان
بحسب الباحثين، فإن أخطر ما يسببه التضخم ليس فقدان القدرة على الشراء فحسب، بل تدمير الإحساس بالأمان. فحين تستيقظ الأسر على أسعار جديدة كل يوم، ويتغيّر سعر الخبز والدواء والوقود بشكل متسارع، تبدأ مشاعر الغموض والارتباك في السيطرة على الوعي الفردي والجماعي.
ولم تعد هذه التجربة مقتصرة على الفقراء فقط، بل باتت تشمل الطبقة المتوسطة والمتقاعدين والشباب الذين عبّر كثير منهم في دراسات ميدانية سابقة عن شعورهم بـ"الغرق في المجهول" و"البلوغ المبكر تحت ضغط المال" و"العطش المستمر إلى الاستقرار".
هذه الحالة الجماعية من القلق أنتجت واقعًا تتراجع فيه الثقة بين الأفراد، وتضعف الروابط الاجتماعية، وتتحول العلاقات من روابط إنسانية إلى علاقات حسابية نفعية يغلب عليها الحذر والشكّ.
رسم ملامح المجتمع
تكشف الدراسة أن التضخم لا يفرغ فقط موائد الأسر الفقيرة، بل يُعيد رسم ملامح المجتمع بأكمله، فالطبقة المتوسطة التي كانت تشكّل تاريخيًا صمام أمان اجتماعي وثقافي، بدأت تتآكل تدريجيًا، في حين نشأت فجوة متزايدة بين قلةٍ مستفيدة من تقلبات الأسعار وأغلبيةٍ تزداد فقرًا وهشاشة.
ويؤدي هذا التفاوت إلى بروز توترات جديدة داخل المجتمع، حيث تتصاعد الفردية والتنافس الحادّ على الموارد المحدودة، وتنحسر قيم التضامن، ويبدأ ما وصفه الباحثون بـ«انحدار الأخلاق الجماعية».
وفي مثل هذه البيئات، تتراجع مساحة العطف والانتماء، ويغلب منطق “النجاة الفردية”، على حساب القيم المشتركة، ما يهدد النسيج الاجتماعي نفسه بالتفكك.
إعادة إنتاج السلطة
من أخطر ما توصلت إليه الدراسة، هو أن التضخم لا يضعف المجتمع فقط، بل يعيد توجيه بوصلته السياسية والنفسية، ففي ظل الفوضى وعدم الاستقرار، يبدأ المواطنون -بدافع الخوف- في البحث عن “قوة مركزية” تعيد النظام بأي ثمن، حتى لو كانت تلك القوة جزءًا من المشكلة.
وهكذا، ينشأ نوع من “الوهم الجماعي” بقوة الدولة، بالتوازي مع ضعف المجتمع وفقدانه قدرته على مساءلة السلطة أو إعادة إنتاج نظامه الاجتماعي بحرية.
وبدلاً من أن يقود هذا الوضع إلى إصلاح حقيقي، يكرّس دائرة مغلقة من الاعتماد، العجز، والانهيار المتبادل بين دولة ضعيفة ومجتمع أضعف.
جريمة بحق الإنسان
من منظور حقوقي وإنساني، لا يمكن النظر إلى التضخم المزمن في إيران بوصفه مسألة اقتصادية منفصلة عن حقوق الإنسان. فارتفاع الأسعار المستمر يمسّ حق الإنسان في الغذاء، والصحة، والسكن الملائم، والعمل الكريم، ويقود تدريجيًا إلى تآكل الحق في الحياة بكرامة وأمان.
وتحذر الدراسة من أن مواجهة التضخم لم تعد مسألة تقنية تُحل عبر أدوات نقدية فقط، بل تتطلب مراجعة شاملة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة بناء الثقة، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وحماية الفئات الأكثر هشاشة من الانهيار الكامل.
وتكشف هذه الدراسة صورة قاتمة لمجتمعٍ يرزح تحت وطأة تضخمٍ مزمن لا يلتهم المال فقط، بل يلتهم المعنى والأمل والانتماء، وفي شوارع إيران وبيوتها ومدارسها وأسواقها، يعيش ملايين الأشخاص تحت ضغطٍ يومي لا تُسمع صرخته، لكنه يترك جروحًا عميقة في النفس والذاكرة والعلاقات الإنسانية.











