بالرسم والألوان.. فتيات غزة يبحثن عن الحياة وسط ركام الحرب

بالرسم والألوان.. فتيات غزة يبحثن عن الحياة وسط ركام الحرب
فتيات من غزة يرسمن

في قلب الدمار الذي تركته حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة تحاول مجموعة من الفتيات اليافعات الإمساك بخيط حياة جديد في مدينة دير البلح، هناك حيث لا تزال آثار الصدمة النفسية ظاهرة في وجوههن، يجدن في الفن ملاذاً آمنا ومساحة تعيد إليهن القدرة على التعبير بعد شهور طويلة أثقلت أحلامهن بالخوف والخسارة.

وتبدو الخيمة البسيطة التي لا تتجاوز بضعة أمتار ملجأً مؤقتاً لكنه يحمل لهن قيمة أكبر بكثير من حجمها، فهي مساحة تمنحهن حرية الحركة والتفكير والبوح.

في هذا المكان تتوزع الفتيات بين الرسم والكتابة وإعادة تدوير المواد المهملة في محاولة لتحويل ما تبقى من الأشياء حولهن إلى أعمال فنية تحمل بصمة طفولتهن التي تحاول النجاة، يجلس بعضهن أمام أوراق مليئة بالألوان في حين تمسك أخريات بدفاتر يكتبن فيها خواطر تعكس ما عاشته غزة من آلام وفقد، وبينهن من تصنع الورود من بقايا البلاستيك في محاولة لاستعادة شيء من جمال فقدته المدينة منذ عامين، بحسب وكالة أنباء الأناضول.

صعوبات تعوق الطريق

القائمات على المبادرة التي تحمل اسم أصوات الغد يؤكدن أن الفتيات يجدن في هذا النشاط متنفساً ضرورياً لكنه محفوف بصعوبات كبيرة، فالحصار الإسرائيلي يمنع دخول معظم أدوات الفنون والمواد الخام الأساسية، ما يضطرهن إلى العمل بما يتوافر في السوق رغم ارتفاع الأسعار وقلة الخيارات.

وتقول القائمات على المبادرة، إن توفير أبسط الأدوات يحتاج جهداً كبيراً؛ لأن المواد المطلوبة للفصل والتلوين والنقش باتت نادرة في ظل القيود الصارمة على إدخال السلع.

وتزامناً مع هذه المبادرة الإنسانية قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس في تصريح حديث إن الأطفال في غزة يحتاجون زمناً طويلاً حتى يبدؤوا التعافي مما عاشوه خلال الحرب.

وأشار إلى أن وقف إطلاق النار الهش منح الأطفال فرصة لالتقاط أنفاسهم واللعب والتواصل وإعادة بناء القدرة على التكيف مع الواقع الصعب.

أنشطة تعيد تشكيل الروح

توضح رهف الشيخ علي مؤسسة نادي أصوات الغد أن الفكرة تقوم على تقديم أنشطة فنية واجتماعية للفتيات بهدف مساعدتهن على تفريغ المشاعر المكبوتة، وتقول إن الفريق ركز على التدوين البصري والرسم بوصفها مجالات تتيح للفتيات التعبير بحرية عن الخوف والحزن والصدمة التي عاشتها كل واحدة منهن.

وتضيف أن النادي يستهدف الفتيات بين 13 و18 عاماً ويعمل على دعمهن نفسياً وتقوية شخصياتهن وتعزيز شعورهن بقدرتهن على تجاوز آثار الحرب في غزة.

وتشير الشيخ علي إلى أن النادي يواجه صعوبة كبيرة في الحصول على أدوات الرسم والخامات الفنية وأن ما يتوفر في المتاجر يباع بأسعار مضاعفة بسبب الحصار والظروف الاقتصادية، لكنها تعبر عن طموح كبير يتمثل في افتتاح مساحات فنية أوسع لتلبية احتياجات الفتيات اللواتي يزداد عددهن بشكل ملاحظ مع كل نشاط جديد.

الفن يعيد إحياء الذات

مرح الشيخ علي، إحدى الفتيات المشاركات، ترى في النادي وسيلة لاستعادة جزء فقدته خلال الحرب، تقول إن الانضمام إلى هذه المساحة سمح لها بإظهار المواهب التي دفنت تحت أصوات القصف ومشاهد الخراب، وتشعر أن الفن أعاد لها جانباً من شخصيتها التي تآكلت بفعل الخوف المتواصل وأن غزة التي تعيش جراحاً مفتوحة ما زالت قادرة على إنتاج الإبداع رغم كل شيء.

وتعكس كلمات مرح صورة مصغرة لواقع واسع ما تزال تعانيه فتيات غزة منذ اندلاع الحرب قبل عامين والتي انتهت رسمياً في العاشر من أكتوبر الماضي، لكن آثارها المروعة ما تزال تلاحق الأطفال الذين فقد كثير منهم أطرافهم أو قدرتهم على السمع والبصر أو فقدوا ذويهم ليصبحوا ضحايا دائمين للإبادة والحصار.

ووفق بيانات المكتب الإعلامي الحكومي ووزارة الصحة في غزة أدت الحرب إلى استشهاد أكثر من 70 ألف فلسطيني، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال، وتشير الإحصاءات إلى أن ما يزيد على ألف طفل دون عام واحد قضوا خلال الحرب وأن نحو 450 رضيعاً فقدوا حياتهم في ظروف قاسية إضافة إلى وفاة أربعة عشر طفلاً جراء البرد القارس خلال فترات النزوح في خيام لا تقي من حر ولا برد.

وتحت هذه الظروف تحاول الفتيات المشاركات في "نادي أصوات الغد" التغلب على الصدمة النفسية التي خلفتها الحرب، وبينهن جنى كراز التي فقدت أختها الوحيدة خلال القصف والتي تقول إن وجودها في هذه المساحة الفنية يمنحها إحساساً بالأمان ويساعدها على مواجهة الفراغ المؤلم الذي تركه الفقد، وتشير إلى أن الرسم والكتابة يخففان عنها عبء الحزن ويمنحانها القدرة على المضي في الحياة رغم كل ما حدث.

أزمة إنسانية

يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة واقعاً مأساوياً مستمرا نتيجة تداعيات الحرب والحصار المتواصل، فلا تزال إسرائيل تمنع دخول كميات كافية من المواد الغذائية والدوائية وتواصل شن غارات متفرقة تستهدف مناطق مختلفة وتؤدي إلى سقوط قتلى وجرحى بين المدنيين.

وفي ظل هذه الأوضاع تزداد معاناة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد، فقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" تسجيل أكثر من 9300 حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال دون سن الخامسة خلال شهر أكتوبر الماضي وهو رقم يعكس خطورة الوضع الصحي المتدهور واستمرار تهديد الموت للأطفال الأكثر ضعفاً.

وبدأ سريان المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر الماضي بعد جهود وساطة مصرية قطرية تركية وبإشراف أمريكي. 

وأوقف الاتفاق حرب الإبادة التي استمرت عامين وخلفت أكثر من 70 ألف شهيد وما يقرب من 171 ألف مصاب، معظمهم من النساء والأطفال، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إعادة إعمار غزة تحتاج إلى ما يقرب من 70 مليار دولار وهو رقم يعكس حجم الدمار الهائل الذي تعرض له القطاع.

التخفيف من آثار الصدمات

تبرز المبادرات الفنية مثل "أصوات الغد" ضمن محاولات المجتمع المدني في غزة للتخفيف من آثار الصدمات النفسية التي خلفتها الحرب وخاصة لدى الفتيات اللواتي يشكلن إحدى أكثر الفئات تضرراً، وتشير دراسات نفسية إلى أن الأنشطة الإبداعية تساعد الأطفال والمراهقين على استعادة الإحساس بالأمان والتعبير عن مشاعرهم المكبوتة وتعزيز قدرتهم على التعامل مع التوتر والقلق.

وخلال السنوات الأخيرة ازدادت أهمية هذه البرامج في غزة بسبب تكرار الحروب وشح الموارد والدعم النفسي المتخصص، وتعد هذه المساحات الفنية جزءاً من جهود محلية تهدف إلى حماية الصحة النفسية للأجيال الصاعدة وتوفير بيئة آمنة تتيح لهم تجاوز آثار الحرب عبر الفن والتدوين والرسم وهي ممارسات أثبتت فعاليتها في البيئات التي تشهد صراعات طويلة ومعقدة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية