بعد سنوات الحرب.. النازحون السوريون ينهضون من الركام ويعيدون بناء مدينة داريا
بعد سنوات الحرب.. النازحون السوريون ينهضون من الركام ويعيدون بناء مدينة داريا
بعد الإطاحة بحكم الرئيس بشار الأسد، عاد الرسام بلال شوربه إلى مدينة داريا، ليكتشف أن عدداً من جدارياته التي رسمها قبل نحو عقد من الزمن ما زالت صامدة، هذه الجداريات التي تحمل رسائل عن الحصار والاعتقال والتوق للحرية، تعكس رحلة المدينة المؤلمة، وتحمل بصمة الفنان على مرحلة من تاريخها.
في المدينة الوحيدة التي أخلاها النظام السابق تماماً من سكانها خلال سنوات النزاع في سوريا، يتفقد شوربه إحدى رسوماته على جدار مهدّم في حي من الأحياء، تجسد هذه الجدارية التي أطلق عليها اسم "سمفونية الثورة"، التحول من التحركات السلمية إلى نزاع مسلح متعدد الأطراف، يظهر فيها فتاة تعزف الكمان، وخلفها جندي يصوّب بندقيته نحوها، فيما يقع مقاتلون آخرون تحت مرمى بندقية مقاتلين من تنظيم داعش الإرهابي وفق فرانس برس.
شوربه الذي قضى السنوات الأخيرة لاجئاً في تركيا، ويعود الآن بعد تسلّم السلطات الانتقالية الحكم في سوريا، يعتبر بقاء جدارياته أمراً "ينتصر فيه الفن على الحرب".
داريا في قلب الصراع
في مارس 2011، كانت داريا في طليعة الاحتجاجات السلمية في سوريا ضد النظام، حيث وزّع المتظاهرون الورود والمياه على الجنود، وكان من بينهم غياث مطر الذي اعتُقل وقتل تحت التعذيب، مع تصاعد الأحداث وتحولها إلى نزاع مسلح.
وشهدت المدينة مجزرة صيف 2012 التي أسفرت عن مقتل 700 شخص على أيدي القوات الحكومية ومقاتلين موالين لها، قبل أن تُحاصر المدينة لأربع سنوات، خلال هذه الفترة، اضطر السكان إلى الطهي باستخدام الحشائش والأعشاب بعد منع دخول المساعدات الغذائية، حتى تم إجلاؤهم جميعاً إلى إدلب عام 2016.
شوربه وصل داريا عام 2013 للانضمام للمعارضة المسلحة، حاملاً حقيبة صغيرة تضم دفتر رسم وأقلام ألوان ورواية، دون أن يتصور أن الحرب ستغير حياته إلى هذا الحد.
خلال سنوات الحصار، أصبح الفن وسيلة للتوثيق والمقاومة، ومع بقاء بعض جدارياته، يرى الفنان أن ذلك بمثابة "هرب من النسيان".
إعادة الإعمار من الداخل
في عام 2019، سمحت السلطات لسكان داريا بالعودة تباعاً بعد تدقيق أمني، حيث عاد غالبية العائدين من النساء والأطفال والمسنين، عشرات الآلاف من اللاجئين والمقيمين السابقين عادوا إلى المدينة، حاملين معهم خبراتهم ومهاراتهم وأموالهم، بالإضافة إلى خبرة اكتسبوها في دول اللجوء حول العمل المدني والديمقراطي.
حسام اللحام، البالغ من العمر 35 عاماً، عاد مع عائلته للمدينة، ليبدأ في إعادة بناء منزله المتضرر، ويقود اللحام لجنة المبادرات ضمن الإدارة المدنية، ويسعى لتأهيل المرافق الأساسية كالمستشفيات والمدارس، متعاوناً مع متطوعين ومنظمات محلية ودولية. يقول اللحام "نرمّم بيوتنا بأنفسنا لكن نريد المساعدة في البنى التحتية".
وتضررت المدارس والمرافق الطبية بشكل بالغ، فقد خرجت أربعة مستشفيات من الخدمة، أبرزها مستشفى داريا الوطني المصمم لخدمة أكثر من مليون شخص، حالياً، تقتصر الخدمات الطبية على مركز تديره منظمة أطباء بلا حدود حتى نهاية العام. الدكتور حسام جاموس، اختصاصي جراحة الأنف والأذن والحنجرة، عاد من الأردن ليعيد ممارسة مهنته، ويقدّم الرعاية الطبية للأطفال والبالغين الذين يعانون من آثار التعذيب أو الاعتقال.
قطاع التعليم يواجه تحديات كبيرة، حيث عاد نحو 14 ألف طالب إلى 17 مدرسة فقط من أصل 24 كانت موجودة قبل 2011، ويواجه التلامذة العائدون من تركيا صعوبات في اللغة العربية، ما دفع الإدارة التربوية لتنظيم دورات لتعويض النقص، ويعمل المدرسون على دمج الأطفال في بيئة تعليمية شبه مدمرة.
فن وصحافة لاستعادة الذاكرة
الرسامون يسعون إلى طمس جداريات الحقبة الماضية التي مجّدت عائلة الأسد، واستبدالها برسومات تمجد الضحايا والمقاومين للحرب وتذكّر بعدم تكرار أخطاء الماضي.
في موازاة ذلك، أعادت صحيفة "عنب بلدي" إصدار محتواها من داريا بعد أن كانت قد انتقلت إلى تركيا وألمانيا، لتعكس صوت المدينة وصمودها، المدير التحريري عمار زيادة يؤكد أن الصحيفة اليوم تسعى لإنتاج محتوى مهني مستقل بعد عقود من القمع، وتساهم في إعادة بناء خطاب حر في سوريا.
وتضم "مقبرة الشهداء" في داريا جثامين 421 شخصاً قتلوا بين عامي 2012 و2016، إضافة إلى مدفن جماعي يضم جثث مجهولة، وأعاد السكان الذين عادوا تنظيم المقبرة مجدداً مستعينين بصور كانوا قد التقطوها قبل مغادرتهم.
آمنة خولاني، عضو الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا، تؤكد أن العديد من الأسر لا تعرف مصير أبنائها، مشددة على أن الحصول على قبور لذويهم ومعرفة الحقيقة أمر بالغ الأهمية للعدالة والمصالحة.
أحياء تحت الإعمار
رغم الدمار، هناك أحياء بدأت تشهد حركة ونشاطاً، فالعمّال يرمّمون المدارس والمباني السكنية، ويعيدون تشغيل مضخات المياه، بينما يعمل النجارون على ترميم الأبنية القديمة. السكان يعتمدون على مهاراتهم وقدراتهم الذاتية لإعادة الحياة إلى المدينة، في حين تعوّل السلطات على الدعم الدولي لإطلاق مرحلة إعادة الإعمار.
داريا، الواقعة على بعد سبعة كيلومترات جنوب غرب دمشق، كانت من أوائل المدن التي خرجت فيها احتجاجات سلمية ضد حكم بشار الأسد في 2011، وتحول النزاع إلى حرب دامية شهدت حصاراً محكماً ومجازر طالت السكان، وأدت إلى تهجير أكثر من 250 ألف شخص إلى دول الجوار وأوروبا، وقد تدمّرت المدينة بالكامل، حيث بلغت نسبة الأبنية المدمرة نحو 65 في المئة، وتضرر 14 في المئة، فيما بقي جزء قليل صالحاً للسكن بعد ترميم نسبي.
العودة إلى داريا تمثل تجربة فريدة لإعادة الإعمار المدني والاقتصادي والاجتماعي بعد صدمة الحرب، فالمدينة اليوم تعكس مزيجاً من الألم والأمل، حيث يسعى السكان والفنانون والحقوقيون والصحفيون لإعادة بناء مجتمعهم على أسس الحرية والعدالة، في ظل تحديات كبيرة تشمل نقص الخدمات الطبية والتعليمية، وغياب البنية التحتية، واحتياجات دعم دولي عاجل لإحياء الحياة اليومية والمجتمعية.











