عام على رحيل الأسد.. عائلات السوريين المفقودين تكافح بحثاً عن الحقيقة

عام على رحيل الأسد.. عائلات السوريين المفقودين تكافح بحثاً عن الحقيقة
بعض صور المفقودين في سوريا

بعد عام كامل على سقوط بشار الأسد وانتهاء أكثر فصول القمع قسوة في تاريخ سوريا الحديث، لا تزال رحلة أمينة بقاعي معلقة في المكان نفسه، تجلس كل مساء أمام شاشة هاتفها المتصدعة وتكتب اسم زوجها المفقود منذ 13 عاما في محرك البحث، ثم تنتظر، لا يظهر شيء.

وتعيد المحاولة ولا شيء يتغير، وكل الروابط التي ظهرت سابقا تظهر مجددا، وكل الصور ذاتها تعود لتقف أمامها مثل جدار لا يمكن اختراقه، لم تمنحها البلاد بعد رحيل المستبد أي طريق آخر كي تعرف أين انتهت حياة زوجها محمود وشقيقها أحمد، أو إن كان لهما أثر بقي في مكان ما فوق الأرض أو تحتها.

العائلات التي كانت تعتقد أن السقوط العسكري والسياسي للنظام سيعني انفتاح الأبواب الثقيلة التي أخفت داخلها عشرات الآلاف، اكتشفت أن الطريق نحو الحقيقة أشد تعقيدا مما توقعت، ولم تقدم الهيئة الوطنية للمفقودين التي تأسست في مايو 2024 أي دلائل ملموسة بشأن ما يقرب من 150 ألف شخص اختفوا خلال حكم الأسد، بالنسبة للكثيرين، يبدو المشهد كأنه استمرار للصمت نفسه ولكن بوجوه جديدة، وفق وكالة أنباء رويترز.

منزل بلا عائدين

اعتقل محمود زوج أمينة في 17 أبريل 2012 من منزلهما قرب دمشق، لم يكن هناك اتهام واضح ولا مذكرة اعتقال، فقط دخول مفاجئ لعناصر الأمن ثم اختفاء كامل، وبعد أشهر، تبعه شقيقها أحمد الذي اعتقل في أغسطس من العام نفسه، وحين انهار النظام في ديسمبر 2024، وعندما فتح مقاتلو المعارضة السجون بعد ساعات من فرار الأسد إلى روسيا.

واعتقدت أمينة أن اللحظة التي انتظرتها قد وصلت، لكنها لم تجد اسميهما بين المحررين، وكان ذلك الضياع الثاني الذي يعيش في ذاكرتها إلى جانب فقدانهما الأول.

تقول أمينة إن الأمل مات يوم انفتحت الأبواب ولم يخرج زوجها ولا شقيقها، لكنها لا تزال تبحث عن إجابة عن أسئلة تصر أنها تستحق الحصول عليها: كيف ماتا؟ ومتى؟ وأين؟

النجاة بلا حقيقة

لم تكن أمينة وحدها في رحلة البحث الطويلة عن المفقودين، فقد عاشت سارة الخطاب، وهي زوجة علي محسن البريدي، قصة مشابهة لكنها بدأت بعد أعوام عديدة من ذروة الحرب، آخر مرة رأت فيها زوجها كانت في 9 فبراير 2019 عندما ذهب إلى مركز شرطة جنوب سوريا لتسوية وضعه بعد سنوات قضاها مع المعارضة، ثم اختفى، لم يصلها أي اتصال أو ورقة أو خبر، بعد سقوط النظام، ظهرت قائمة لسجناء صيدنايا القتلى تضمنت اسم البريدي وتاريخ وفاته في 22 أكتوبر 2019 بسبب توقف النبض والتنفس، مع تعليمات بعدم تسليم جثته إلى عائلته، مجرد سطر في ورقة رسمية، لا أكثر.

وأُنشئت الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا بعد سقوط النظام مباشرة، بقرار من الرئيس الجديد أحمد الشرع، وتعد مهمة الهيئة معقدة، إذ تشمل التعامل مع جميع حالات الاختفاء في سوريا بغض النظر عن الجهة المسؤولة والظرف والتاريخ، وتقول المستشارة الإعلامية للهيئة إن العمل يسير ببطء لأن التعامل مع الأرقام الضخمة يتطلب منهجية دقيقة، وليس تعجلا قد يؤدي إلى أخطاء لا يمكن إصلاحها.

لكن بالنسبة للعائلات، يبدو الزمن قاسيا، فالانتظار الذي امتد سنوات تحت حكم الأسد يستمر حاليا في مرحلة جديدة يفترض أنها أكثر انفتاحا ووعودا، لكن ملمسها على أرض الواقع لا يزال باردا، وتخطط الهيئة لإطلاق قاعدة بيانات وطنية خلال العام المقبل مستخدمة وثائق السجون وأرشيفات مختلفة، كما تتوقع بدء العمل على استخراج الرفات من المقابر الجماعية بعد 2027 بسبب نقص المختبرات والتقنيات اللازمة.

قلة الموارد ليست وحدها العائق، فهناك شكوى واسعة من نشطاء حقوقيين يرون أن الحكومة الجديدة تحتكر الوثائق المتعلقة بالاعتقالات، وأن خبراتهم المتراكمة خلال سنوات المنفى لا تُستثمر كما يجب، وفي سبتمبر الماضي اعتقلت السلطات الناشط عامر مطر لفترة وجيزة واتهمته بالاطلاع غير القانوني على وثائق رسمية، رغم أنه أسس مشروعا لتوثيق تجارب المعتقلين.

الهيئة من جانبها تؤكد أنها الجهة الرسمية الوحيدة المخولة بالملف، وأن تعدد الجهات يربك العائلات ويزيد احتمالات التضليل.

ضغط من منظمات حقوقية

منظمات محلية ودولية تعتبر أن الهيئة تحتاج إلى شفافية أكبر وتحديثات منتظمة، وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية إن الأولوية يجب أن تكون الشعور بأن أصوات عائلات المفقودين مسموعة وأن هناك دعما نفسيا وماديا لها، خصوصا أن الانتظار الطويل استنزف قدرتهم على التحمل.

وفي المخيمات والاعتصامات التي تُعرف باسم خيام الحقيقة، تقف أمهات وشقيقات وآباء يرفعون صور أحبائهم ويطالبون بما هو أقل من العدالة وأكبر من القدرة على النسيان، يريدون معلومة، إشعار وفاة، رفات، أي أثر، ولا أحد يعرف يقينا أين قد يقودهم البحث.

عليا دراجي، امرأة مسنة من ريف دمشق، ما تزال تعيش اللحظة ذاتها منذ 1 نوفمبر 2014 عندما غادر ابنها يزن المنزل ولم يعد، وبعد سقوط النظام، انضمت إلى خيام الحقيقة على أمل أن تظهر معلومة تغير شيئا من حياتها التي توقفت عند ذلك اليوم، كانت تأمل أن تجد جثمانه يوما كي تدفنه كما يستحق، لكنها لا تزال تنتظر.

الوجع الذي يتجدد

بعد مرور عام على سقوط النظام الذي أنشأ أحد أكبر منظومات الاختفاء القسري في الشرق الأوسط، لا تزال سوريا تبحث عن الحقيقة، لا تزال السجون السابقة تحمل أسرارها، والمقابر الجماعية تحتفظ بأسماء لم تُكتب على شواهد، أما الأمهات والزوجات والأبناء فهم عالقون في فراغ كبير لا يملؤه سوى الحنين والقلق وقلوب تعبت من السؤال.

شهدت سوريا منذ عام 2011 حملة واسعة من الاعتقالات والاختفاءات القسرية التي وثقتها منظمات دولية عديدة، بينها ما يقدر بنحو 150 ألف حالة اختفاء في السجون والمراكز الأمنية التابعة للنظام، ويعد سجن صيدنايا من أبرز مراكز الاحتجاز المرتبطة بممارسات الإعدام والتعذيب، وقد وصفته منظمات حقوقية عديدة بأنه من أكثر السجون قسوة في العالم.

وبعد سقوط الأسد في ديسمبر 2024، دخلت جماعات معارضة إلى عدد من السجون، لكن ذلك لم يؤد إلى كشف مصير عشرات الآلاف، إنشاء الهيئة الوطنية للمفقودين في مايو 2024 كان خطوة رسمية لمعالجة الملف، إلا أن التقدم ما يزال بطيئا وسط صعوبات لوجستية وسياسية وحقوقية، وتظل قضية المفقودين إحدى أعقد قضايا المرحلة الانتقالية في سوريا وأكثرها ألما وتأثيرا على آلاف العائلات التي لا تزال بلا أجوبة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية