ملف المفقودين السوريين.. الأمم المتحدة تؤكد وجود ناجين وتعاون مع المؤسسة الوطنية
ملف المفقودين السوريين.. الأمم المتحدة تؤكد وجود ناجين وتعاون مع المؤسسة الوطنية
كشفت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة ورئيسة المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا كارلا كينتانا، عن معلومات موثوقة تفيد بأن بعض المفقودين السوريين ما زالوا على قيد الحياة، مؤكدة أن عملية تحديد الهوية والتحقيقات يجب أن تكون بقيادة وطنية سورية مدعومة بتعاون دولي.
أوضحت كينتانا في مقابلة مع وكالة أنباء الأناضول نشرت اليوم الخميس أن المؤسسة الأممية تتابع ملفات مئات الآلاف من المفقودين في سوريا، ضمن أربعة محاور رئيسية هي المفقودون على يد النظام السوري، والأطفال المفقودون، والمهاجرون، والأشخاص الذين اختفوا خلال سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق واسعة من البلاد.
أدلة تشير إلى وجود ناجين
وأكدت المسؤولة الأممية أن لدى المؤسسة أدلة وبيانات يمكن التحقق منها تشير إلى وجود ناجين من حالات الاختفاء القسري، وأن بعض النساء والأطفال المفقودين ربما كانوا ضحايا للعبودية الجنسية أو الاتجار بالبشر ، وقالت إن هذه الحقائق تضيف بعداً جديداً للمأساة، لكنها في الوقت ذاته تبعث الأمل لدى عائلات المفقودين التي تنتظر أي خبر منذ سنوات.
وأشارت كينتانا إلى أن البحث عن المفقودين في سوريا ليس مجرد واجب إنساني، بل هو التزام أخلاقي عالمي، مضيفة أن هذا الملف يتجاوز حدود السياسة، ويمس جوهر العدالة والكرامة الإنسانية، وقالت إن المؤسسة تعمل حالياً بفريق من نحو أربعين شخصاً بين خبراء وباحثين، لكنها شددت على أن حجم المأساة يتجاوز قدرة أي جهة واحدة على معالجتها.
وأضافت أن نجاح المهمة يتطلب إشراك المؤسسات الوطنية السورية ومنظمات المجتمع المدني ووكالات الأمم المتحدة والدول الأعضاء وأسر المفقودين أنفسهم، وأكدت أن المؤسسة تعتمد نهجاً تعاونياً قائماً على تبادل المعلومات والبيانات لتوحيد الجهود من أجل كشف الحقيقة.
وقالت كينتانا إنها تتواصل بانتظام مع رئيس اللجنة الوطنية للبحث عن المفقودين التي أنشأها الرئيس السوري أحمد الشرع، مشيرة إلى أن هذا التنسيق يمثل سابقة تاريخية، إذ لم يحدث من قبل أن عمل كيان وطني ودولي في وقت واحد للبحث عن المفقودين في بلد واحد، وأضافت أن هذا التعاون المشترك يشكل فرصة نادرة لبناء الثقة وإرساء أسس العدالة الانتقالية في سوريا.
مؤسسات خاصة بالمفقودين
المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا أُنشئت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع والعشرين من يونيو عام 2023، استجابة للمطالب المتكررة من أسر الضحايا والمنظمات الحقوقية السورية التي ناضلت لسنوات من أجل إنشاء آلية دولية مستقلة، وتتمثل مهمتها الأساسية في جمع المعلومات والتحقق منها وتنسيق الجهود الدولية من أجل معرفة مصير المفقودين والكشف عن أماكن وجودهم أو رفاتهم.
وفي مايو الماضي، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع مرسوماً بإنشاء الهيئة الوطنية للمفقودين، بصفتها هيئة مستقلة تُعنى بتقصي الحقائق حول مصير المختفين قسراً والمغيبين، وتعمل على ضمان حقوق أسرهم القانونية والإنسانية، وعُدَّ تأسيس الهيئة خطوة غير مسبوقة في تاريخ البلاد، إذ فتحت الباب أمام تعاون رسمي بين دمشق والمؤسسات الأممية في هذا الملف الشائك.
ورحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في أكتوبر الماضي بإنشاء الهيئة الوطنية، وأشاد بجهود المؤسسة المستقلة، مؤكداً أن العمل المشترك بين الجهتين يمثل فرصة استثنائية لمواجهة أحد أكثر الملفات تعقيداً في الأزمة السورية، واعتبر أن "العمل المتوازي بين المؤسستين الوطنية والدولية يفتح باب الأمل أمام مئات آلاف العائلات التي تعيش منذ أكثر من عقد في دائرة الغياب والانتظار".
ويُقدّر عدد المفقودين في سوريا منذ عام 2011 بمئات الآلاف، وفق منظمات حقوقية دولية، منهم معتقلون ومختطفون ومغيبون قسراً على أيدي أطراف متعددة، من قوات النظام والجماعات المسلحة إلى تنظيم داعش الإرهابي، وقد وثقت منظمات أممية وأخرى سورية محلية حالات اختفاء قسري واحتجاز تعسفي وتعذيب ممنهج، ما جعل ملف المفقودين أحد أكثر القضايا إيلاماً وتعقيداً في المشهد السوري.
كارلا كينتانا أكدت أن الأولوية الآن هي بناء آلية موحدة لتبادل المعلومات بين الجهات المحلية والدولية، وتوفير الدعم التقني للمؤسسات الوطنية السورية لتطوير أدوات البحث والتوثيق، وأشارت إلى أن التعاون الدولي وحده لا يكفي، إذ لا بد من قيادة سورية تضمن المصداقية والاستمرارية، وتحمي العملية من التسييس أو الاستغلال.
قاعدة بيانات مركزية
وأضافت أن المؤسسة الأممية تسعى إلى إنشاء قاعدة بيانات مركزية للمفقودين تشمل جميع الأطراف، ومنها أسر الضحايا والمنظمات الحقوقية السورية. وتهدف هذه القاعدة إلى جمع الأدلة، وتحليل أنماط الاختفاء، وتحديد أماكن المقابر الجماعية المحتملة.
وتؤكد كينتانا أن العائلات هي محور العمل في كل خطوة، إذ تعتمد المؤسسة على شهادات الأقارب والأصدقاء والمجتمعات المحلية في توثيق الحالات. وقالت إن "العائلات هي التي تُبقي الأمل حياً، وهي التي دفعت الأمم المتحدة للتحرك وإنشاء هذه المؤسسة، بعد سنوات من الصمت الدولي والتقاعس السياسي".
وفي الوقت الذي تتزايد فيه التحديات الأمنية واللوجستية داخل سوريا، ترى كينتانا أن العمل الميداني ما زال ممكناً من خلال التعاون بين الجهات المحلية والمجتمع الدولي. وقالت إن نجاح المؤسسة المستقلة يعتمد على قدرتها على بناء الثقة بين السوريين أنفسهم قبل أي شيء آخر؛ لأن "الحقيقة لا يمكن فرضها من الخارج، إنما تُكتشف من الداخل".
ويُنتظر أن تُطلق المؤسسة خلال العام المقبل برنامجاً لتدريب كوادر سورية على تقنيات البحث الجنائي وتوثيق المقابر الجماعية، بدعم من عدة دول أعضاء في الأمم المتحدة، كما تعمل على إعداد تقرير شامل عن حالة المفقودين في سوريا يُتوقع نشره منتصف عام 2026.
بهذه الخطوات المتدرجة، تحاول الأمم المتحدة والمؤسسات السورية المستقلة فتح نافذة أمل في واحد من أكثر الملفات قتامة في التاريخ السوري الحديث، فبعد سنوات من الألم والصمت، قد يشكل التعاون الحالي بداية طريق طويل نحو الحقيقة والمساءلة، وربما نحو مصالحة إنسانية ما زالت بعيدة المنال، لكنها باتت أخيراً ممكنة.










