عشر سنوات على اتفاقية باريس.. وعود بيئية بلا ضمانات رغم التقدم الأخضر
عشر سنوات على اتفاقية باريس.. وعود بيئية بلا ضمانات رغم التقدم الأخضر
يستدعي مرور 10 سنوات على اتفاقية باريس للمناخ إعادة طرح سؤال الحقوق الأساسية للإنسان في مواجهة أزمة لم تعد بيئية فحسب، بل تحولت إلى تهديد شامل للحق في الحياة والصحة والغذاء والمسكن، إذ بات تغيّر المناخ عاملاً مباشراً في تعميق عدم المساواة بين الدول والشعوب، وفي تحميل الفئات الأكثر ضعفاً كلفة تاريخ طويل من الانبعاثات لم تكن مسؤولة عنه.
يضع تقييم صحيفة "الغارديان"، لأثر اتفاقية باريس بعد عقد كامل من توقيعها هذه الحقيقة في قلب النقاش، مشيراً إلى أن القمة التاريخية التي انعقدت عام 2015 لم تكن مثالية، لكنها أطلقت مساراً عالمياً لا يمكن إنكار نتائجه أو تجاهل تداعياته الحقوقية، رغم ما يحيط به من إخفاقات وتراجع في الالتزامات.
ويكشف التركيز المستمر على فشل الدول في الوفاء بتعهداتها جانباً واحداً من الصورة، في حين يغيب عن النقاش العام حجم التحولات التي شهدها قطاع الطاقة عالمياً، وهي تحولات ترتبط ارتباطاً مباشراً بواجب الدول في حماية مواطنيها من مخاطر الانهيار البيئي.
وسجل العام الماضي نمو الطاقة المتجددة بنسبة 15%، لتشكّل أكثر من 90% من إجمالي قدرة توليد الطاقة الجديدة، في قفزة غير مسبوقة تعكس بداية فك الارتباط التدريجي مع الوقود الأحفوري، الذي ظل لعقود مصدراً رئيسياً للتلوث والضرر البيئي واسع النطاق.
ويربط تجاوز الاستثمارات في الطاقة النظيفة حاجز التريليوني دولار، أي ما يعادل ضعف الاستثمارات في الوقود الأحفوري، بين القرارات الاقتصادية والحقوق البيئية، في دلالة على أن التحول المناخي لم يعد خياراً أخلاقياً فقط، بل مساراً اقتصادياً تفرضه الوقائع.
الحق في الطاقة العادلة
يبرز التحول في قطاع النقل بوصفه أحد أبرز تجليات هذا المسار، إذ أصبحت السيارات الكهربائية تمثل نحو خُمس السيارات الجديدة المبيعة عالمياً، في خطوة تحمل بعداً حقوقياً يتجاوز تقليل الانبعاثات إلى الحد من التلوث الحضري الذي يؤثر بشكل غير متكافئ على الفئات الأفقر في المدن.
تؤكد البيانات أن الطاقة منخفضة الكربون باتت تشكّل أكثر من نصف قدرة توليد الطاقة في كل من الصين والهند، مع استقرار الانبعاثات في الصين وتراجعها في معظم الدول المتقدمة، وهو ما يعكس تغيراً في موازين المسؤولية المناخية العالمية، وإن ظل غير كافٍ لتحقيق العدالة المناخية المنشودة.
تصف لورانس توبيانا، الدبلوماسية الفرنسية السابقة وأحد أبرز مهندسي اتفاقية باريس، هذا التحول بأنه "لا يمكن لأي دولة تجاهله"، معتبرة أن الاتفاقية أطلقت شرارة عالمية أعادت توجيه السياسات والاستثمارات نحو مسار أقل تلويثاً.
وتدعم رؤية الرئيس التنفيذي لمركز أبحاث "كلايمت أناليتكس"، بيل هير، هذا التقييم، إذ يرى أن إعادة تحديد سقف 1.5 درجة مئوية وهدف صافي الانبعاثات الصفرية أعادت تشكيل السياسات والتمويل والقواعد القطاعية، وأسهمت في إعادة صياغة طريقة عمل الدول والأسواق والمؤسسات.
بين الأرقام والحقوق
يقارن وزير الطاقة البريطاني إد ميليباند بين المسار الحراري قبل اتفاقية باريس وبعدها، موضحاً أن العالم كان متجهاً نحو ارتفاع كارثي يتجاوز 4 درجات مئوية، قبل أن ينخفض إلى 3 درجات بعد الاتفاقية، ثم إلى 2.8 درجة عقب مؤتمر غلاسكو، وصولاً إلى توقعات تبلغ نحو 2.5 درجة مئوية إذا تم الوفاء بالتعهدات الحالية.
يعترف ميليباند في الوقت ذاته بأن هذا التقدم لا يزال بعيداً عن الأهداف المتفق عليها، مشيراً إلى أن إقناع 193 دولة بإعادة هيكلة اقتصاداتها وأنظمة الطاقة لديها يظل مهمة شاقة، لكنها ضرورية لحماية الحقوق الأساسية من آثار أزمة متفاقمة.
يوضح تقرير لـ"يورونيوز" أن العالم لا يسير بالسرعة الكافية لتحقيق أهداف اتفاقية باريس: من بين 45 مؤشراً رئيسياً، ستة منها "خارج المسار الصحيح"، و29 "بعيدة كل البعد عن المسار الصحيح"، وخمسة تسير في الاتجاه الخاطئ تماماً، في حين أن التقدم في معظم المؤشرات لا يزال بطيئاً وغير منتظم.
ويؤكد التقرير أن التمويل الخاص للمناخ بلغ نحو 1.2 تريليون يورو في 2023، مرتفعاً من 750 مليار يورو في 2022، لكنه لا يزال أقل بكثير من المطلوب، في حين استمر التمويل العام للوقود الأحفوري في الارتفاع، ليصل إلى أكثر من 1.4 تريليون يورو في 2023، في وقت يحتاج العالم إلى خفض استهلاك الفحم وتقنيات إزالة الغابات بوتيرة أسرع بعشر أضعاف للتماشي مع أهداف 1.5 درجة مئوية.
وتُظهر الأرقام العالمية أن معدل إزالة الغابات الحالي يعادل فقدان 22 ملعب كرة قدم كل دقيقة، ما يجعل الحد من إزالة الغابات بتسعة أضعاف أمراً ضرورياً.
ويحذر التقييم من أن إخفاق الدول الغنية في الوفاء بالتزاماتها تجاه الدول الفقيرة يهدد بتقويض الإجماع العالمي، ويضع مبدأ المسؤوليات المشتركة ولكن المتباينة تحت ضغط متزايد، في وقت تتحمل فيه المجتمعات الأكثر هشاشة الكلفة الكبرى للتغير المناخي.
حقوق معلّقة
يوثّق العقد الماضي تناقضات حادة في سياسات المناخ، كان أبرزها انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة عام 2016، وما تبعه من تعهد بالانسحاب من اتفاقية باريس وبدء إجراءات الانسحاب في 2017، في خطوة اعتُبرت آنذاك ضربة لجهود العمل المناخي العالمي.
ويرصد تكرار هذا السيناريو مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض وبدء إجراءات الانسحاب مجدداً في يناير بالتزامن مع فرض تعريفات جمركية باهظة أثارت اضطرابات تجارية عالمية، في مسار يعكس تصادم السياسات الاقتصادية مع الالتزامات البيئية.
يشير التقييم إلى أن الانسحاب الأمريكي الأول لم يؤدِّ إلى انسحاب دول أخرى فاعلة، لكنه تزامن مع ارتفاع كبير في انبعاثات الصين بعد عام 2016، حيث عادت محطات الفحم إلى الواجهة، وارتفعت الانبعاثات من نحو 10 مليارات طن إلى 12.3 مليار طن العام الماضي.
ويفسر مدير مركز المناخ الصيني في معهد سياسات جمعية آسيا، لي شو، هذا الارتفاع بسعي الحكومة لدعم النمو الاقتصادي عبر قطاعات العقارات والبناء والصناعات الثقيلة، قبل أن يتغير المسار تدريجياً.
يحذر مستشار المناخ السابق في البيت الأبيض، بول بليدسو، من أن موجة التوسع في الفحم بعد باريس أضعفت الحجج الداعية للعمل المناخي في الولايات المتحدة، وأسهمت في تصاعد التشاؤم حيال فعالية الاتفاقيات الدولية.
التناقض بين النمو والالتزام
يعرض التقييم مفارقة الصين، التي تتحمل نحو 90% من الزيادة في الانبعاثات منذ اتفاقية باريس، لكنها في الوقت ذاته أضافت طاقة متجددة أكثر من بقية دول العالم مجتمعة العام الماضي، وشكّلت الطاقة النظيفة 10% من ناتجها المحلي الإجمالي.
ويبرز الدور الذي لعبه التصنيع الصيني في خفض أسعار الألواح الشمسية بنحو 90% خلال عقد واحد، وهو ما أسهم في تسريع التحول العالمي للطاقة النظيفة، رغم استمرار الاعتماد على الفحم.
أكد كبير مستشاري الحكومة الصينية، وانغ يي، التزام بكين بتسريع تطوير نظام طاقة جديد خلال السنوات الخمس المقبلة، في محاولة للتوفيق بين متطلبات النمو وضرورات خفض الانبعاثات.
وبتتبع المسار الهندي بوصفه حالة مشابهة، تجاوزت انبعاثات البلاد مثيلاتها في أوروبا، وقد تتجاوز الولايات المتحدة خلال عقد، لكنها في الوقت ذاته حققت نصف قدرتها المركبة من مصادر منخفضة الكربون، وبلغت أهداف الطاقة المتجددة قبل الموعد المحدد بخمس سنوات.
يؤكد الرئيس التنفيذي لمجلس الطاقة والبيئة والمياه، أرونابها غوش، أن الهند تتجه نحو مستقبل أنظف، مع التخطيط لشبكة كهرباء قادرة على استيعاب كميات أكبر من الطاقة المتجددة، رغم استمرار الاعتماد على الفحم.
يكشف الموقع الرسمي لمركز أبحاث "أرشيف الأمن القومي"، التابع لجامعة جورج واشنطن، عبر وثائق رُفعت عنها السرية، الكيفية التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع مفاوضات اتفاقية باريس، بما في ذلك السعي لاتفاق يتضمن بنوداً ملزمة مع تجنب إعلان ذلك علناً.
ويوضح أن هذا النهج سمح للرئيس باراك أوباما بالانضمام إلى الاتفاقية عبر إجراء تنفيذي دون الرجوع إلى الكونغرس، لكنه في الوقت ذاته جعل الالتزام الأمريكي عرضة للتقلب مع تغير الإدارات.
ويخلص مرور عشر سنوات على اتفاقية باريس إلى حقيقة مزدوجة، تحولات حقيقية لا يمكن إنكارها، وفجوة خطِرة لا تزال تفصل العالم عن الوفاء بالتزاماته تجاه الإنسان والكوكب، في وقت لم يعد فيه تغيّر المناخ مسألة بيئية، بل قضية حقوقية بامتياز.











