فتيات على دروب وعرة.. معاناة الوصول للمدارس في المناطق الريفية والجبلية بالمغرب

فتيات على دروب وعرة.. معاناة الوصول للمدارس في المناطق الريفية والجبلية بالمغرب
مدرسة في المغرب - أرشيف

في صباحات بطيئة تتأخر فيها الشمس، تنطلق فتيات صغيرات سيرًا على أرجل متعبة تروي حكايات موجعة، لكنهن يحملن أحلام الصفوف الأولى داخل حقائب مهترئة، ويشققن طرقًا ترابيةً ووعرة بحثًا عن فصل أو مدرس أو حتى مرافق صحية بسيطة، وهي الصورة القاتمة لواقع يمتد عبر قرى جبلية ووديان بعيدة، حيث تبقى المسافات والفقر وهشاشة البنى التحتية والعادات الاجتماعية، حواجز يومية أمام حقٍ مُعلن في تعليم الفتيات بالمغرب.

وفي المغرب ارتفعت معدلات الالتحاق بالمرحلة الابتدائية لدى الفتيات على مدى السنوات الأخيرة، لكن الفجوات الإقليمية بين الحضر والريف لا تزال كبيرة، إذ تشير المصادر إلى تحسن على مستوى التحاق الفتيات بالابتدائي، فيما تتركز مشكلات الالتحاق والاستمرار في المناطق الريفية والجبلية خاصة عند الانتقال إلى التعليم الإعدادي والثانوي.

وفي بعض الإحصاءات تسجل نسبة انخراط الفتيات في الفئة العمرية 15–17 سنة تفاوتًا كبيرًا بين الحضر والريف (نسبة حضرية مرتفعة جداً مقابل نسب ريفية أقل بكثير)، ما يعكس صعوبة الاستمرار بعد المرحلة الابتدائية في المناطق النائية.

وتتركز معظم العوائق في البعد الجغرافي، حيث الطريق الطويل للوصول إلى المدرسة، ونفاد وسائل النقل، وغياب مساكن طلابية كافية أو ارتفاع تكلفة السكن، ونقص مرافق صحية وخاصة مراحيض مناسبة للفتيات، وضغوط اقتصادية أو الزواج المبكر التي تدفع بعض الأسر لحرمان الفتاة من إكمال الدراسة.

وفي كثير من قرى الأطلس ومناطق ريفية أخرى، تفصل بين المنزل والمدرسة مسافات طويلة، ساعات من المشي على طرق غير ممهدة أو جبالٍ ووديان، وهذه المسافة المُرهقة تضاعف إحجام الأسر عن إرسال بناتهم إلى المدارس، وخاصة في مرحلتي الإعدادي والثانوي، حيث يزداد خطر التعرض لمشكلات ناجمة عن وعورة الطرق أو توقف وسائل النقل.

ويجبر الفقر في المناطق الجبلية والريفية بالمغرب، معظم الأسر على تفضيل عمل الأطفال الذكور أو تزويج الفتيات مبكرًا عن الاستثمار في التعليم، وكذلك تغلب على الثقافة في الريف اضطلاع النساء بحصة كبيرة من الأعمال المنزلية، ما يقيد وقت الفتيات ويجعل التعليم أولوية ثانوية، إلى جانب تراجع معدلات مشاركتهن مقارنةً بالمدن.

وينعكس غياب التعليم للفتيات على معدلات الزواج المبكر، وتراجع الصحة الإنجابية، وضعف التمكين الاقتصادي والمشاركة المجتمعية، ما يؤثر سلبا بشكل مباشر على الاستثمار والتنمية والاقتصاد والاستقرار الاجتماعي طويل الأمد، إذ تُفاقم هذه الدائرة المغلقة من الحرمان فجوات الفقر بين الأسر، وتُضعف قدرة النساء على الوصول إلى فرص العمل اللائق، وتقلص حضورهن في مواقع اتخاذ القرار.

تداعيات الهدر المدرسي

بدورها، قالت الحقوقية المغربية ليلى أميلي، لـ"جسور بوست"، إن هناك فتيات مغربيات يمشين اليوم على دروب شاقة، لا لأن الطريق وعر فحسب، بل لأن التعليم غائب عنهن في مناطق ريفية وجبلية ما زالت تعيش خارج دائرة الاهتمام الكافي، مؤكدة أنها التقت فتيات من هذه المناطق عن قرب، وسمعت منهن قصصًا تختلط فيها البراءة بالخذلان، وتتحول فيها المدرسة إلى حلم بعيد المنال.

وأضافت أميلي، وهي رئيسة جمعية أيادي حرة المغربية، أنها كانت ضمن فرق الدعم التي وصلت إلى مناطق زلزال الحوز الأخير، حيث لاحظت تطورًا نسبيًا في التحاق عدد من الأسر بمنازل جديدة أو أخرى ما تزال قيد البناء، لكن هذا التحسن العمراني لم ينعكس بعد على واحد من أخطر الملفات وهو "الهدر المدرسي"، الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام كارثة الزواج المبكر.

ولهذا تؤكد ليلى أن المطلب الأول والأهم كان هو تأمين النقل المدرسي، خاصة مع تضرر العديد من المدارس بفعل الزلزال وابتعادها عن التجمعات السكنية، والدولة المغربية حققت بالفعل إنجازات في بعض المدارس، بينما لا تزال مدارس أخرى تعيش أوضاعًا صعبة، ما يفاقم أزمة غياب التعليم لدى الفتيات في المناطق الجبلية والريفية التي أصابها الزلزال، فالتفاوت بين منطقة وأخرى يخلق واقعًا هشًا، يدفع ثمنه أطفال لا يملكون رفاهية الانتظار.

وشددت على أن تعليم الفتيات ليس مجرد حق، بل هو طوق نجاة، وهذا ما يحاول المجتمع المدني ترسيخه عبر حملات التوعية مع الأسر، غير أن الواقع كثيرًا ما يكون أقوى من الوعي، فبعد المدرسة عن المنازل، وغياب وسائل النقل، وصعوبة التضاريس، جميعها حواجز صامتة تمنع الفتيات من العبور إلى مستقبل أفضل.

وكشفت أن جزءًا من مطالب المجتمع المدني قد تحقق بالفعل، لكن الطريق لا يزال طويلًا أمام محاربة الهدر المدرسي، إذ لا تزال فتيات كثيرات يجلسن في بيوتهن مهما كانت أحلامهن كبيرة، لأن المسافة بين البيت والمدرسة تُعامل في بعض القرى كشبه قدر محتوم، وهذا الغياب القسري يفتح الباب لارتفاع وتيرة الزواج المبكر، ولتراكم مشكلات اجتماعية أخرى لا تقل قسوة.

وأضافت بأسى واضح: "قبل أيام فقط كان العالم يحتفي باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء، ونحن نرى أن حرمان الفتيات من التعليم، وتركهن أسيرات للظروف، هو شكل صارخ من أشكال العنف المسكوت عنه.. فالفتيات اللاتي لا يستطعن الوصول إلى المدرسة، يُحرمن في الواقع من أبسط حقوقهن في الحماية والكرامة والاختيار".

النقل والمنح التعليمية

ويتقاطع مع هذا الألم الحقوقي والبرلماني السابق عادل تشيكيطو، في حديثه لـ"جسور بوست"، قائلاً إن كل الجهود الرسمية المبذولة لتحسين الوصول إلى التعليم، خصوصًا للفتيات القاطنات في القرى والجبال، لا تنفي حقيقة الواقع الذي يؤكد أن المدارس ما زالت بعيدة، والطرقات وعرة، والبنية التحتية هشة، والفصول الدراسية تفتقر لأبسط شروط الاستقبال الإنساني الذي يحفظ للفتيات كرامتهن وأمنهن.

ويضيف تشيكيطو أن هذه الظروف القاسية تجعل الانقطاع المدرسي أشبه بمسار إجباري لفتيات تلك المناطق، لا خيارًا، فعندما تغلق المدرسة أبوابها في وجوههن، تفتح الحياة أبوابًا أخرى أكثر قسوة، حيث ترتفع معدلات الزواج المبكر، ويتبدد المستقبل قبل أن يبدأ، وتحرم آلاف الفتيات من فرصة النجاة الوحيدة التي يتيحها التعليم، فيتراجع معها أمل التنمية المحلية، ويضعف نسيج المجتمع برمته.

ورغم ذلك -كما يقول- فإن بريق الأمل لا ينطفئ، لأن التجارب الحية في بعض القرى الجبلية تُثبت أن التعليم ليس حلمًا معلقًا في الهواء، بل هو إمكانية يمكن تحويلها إلى واقع حين تتوفر الإرادة ويُوضع تخطيطٌ جاد يراعي الإنسان قبل الحجر.

ويرى تشيكيطو أن من أبرز الحلول الواقعية لإنقاذ الفتيات من هذا الحرمان هو تعزيز النقل المدرسي وتوسيعه ليشمل المناطق الوعرة، إلى جانب توفير منح تعليمية تساعد الأسر على إبقاء بناتهن في مقاعد الدراسة، وإعادة تأهيل المدارس الجبلية والريفية بما يجعلها بيئة آمنة وجاذبة وقادرة على الاحتفاظ بتلميذاتها بدل أن تدفعهن خارج أسوارها.

ويشير كذلك إلى أن الاستثمار في تدريب المدرسين، وتوفير مواد تعليمية مبسطة ومناسبة لخصوصية هذه المناطق، خطوة أساسية لتقليص الهوة بين القرى والجبال من جهة، والمدن المركزية من جهة أخرى، مؤكدا أن مسؤولية الأسرة والمجتمع المدني لا تقل وزنًا عن مسؤولية الدولة، لأنهما خط الدفاع الأول عن حق الفتاة في التعلم، ويحميان مسارها من الانكسار ويحوّلان طريق المعاناة إلى طريق أقصر وأقل قسوة.

ويشدد تشيكيطو على أن تعليم الفتيات في المناطق الريفية والجبلية حق أصيل، ليس مجرد مطلب اجتماعي بل ركيزة لتطور المجتمع بأكمله، فحين نُمكن فتاة واحدة من مواصلة تعليمها، نحن في الواقع نبني امرأة قادرة، ونؤسس لاقتصاد أكثر عدلًا، ولمغرب أكثر إنصافًا وتقدمًا.

ويختتم حديثه بعبارة أن "الفتاة المتعلمة في هذه المناطق ليست مستفيدة فقط من المعرفة، بل هي شريكة في بناء مجتمع يستطيع تجاوز تحدياته، مجتمع يقوم على الكرامة والعدالة الاجتماعية، ويمنح لكل طفلة الحق في أن تحلم وأن تصل".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية