بعد نشر وثائق منقوصة من ملفات إبستين.. حقوق الضحايا تصطدم بجدار السرية

بعد نشر وثائق منقوصة من ملفات إبستين.. حقوق الضحايا تصطدم بجدار السرية
رجل الأعمال الأمريكي، جيفري إبستين- أرشيف

كشف نشر دفعة جديدة من ملفات جيفري إبستين عن واحدة من أكثر الإخفاقات المؤسسية فداحة في حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، بعدما أظهرت الوثائق أن تحذيرًا مبكرًا وموثقًا قُدم إلى السلطات الفيدرالية في الولايات المتحدة عام 1996، لكنه قوبل بالتجاهل، ما فتح الباب أمام عقود من الانتهاكات بحق فتيات قاصرات.

ووفق ما أوردته "نيويورك تايمز"، تضمنت الملفات شكوى رسمية تتعلق باستغلال الأطفال جنسيًا، قُدمت إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي قبل ما يقرب من عشر سنوات من بدء التدقيق الجاد في سلوك إبستين.

أبرزت الوثائق أن الفنانة المحترفة ماريا فارمر، التي عملت لدى جيفري إبستين في التسعينيات، تواصلت صيف عام 1996 مع محققين فيدراليين لحثهم على التحقيق معه، إلا أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يعترف علنًا ببلاغها، حتى أمامها، طوال سنوات.

وأظهر تقرير مؤرخ في 3 سبتمبر 1996، جرى الكشف عنه ضمن آلاف الملفات المنشورة، أن الشكوى كانت موجودة بالفعل، ما بدد اتهامات وُجهت لفارمر على مدار عقود بادعاء اختلاقها القصة.

انتهاكات في إطار مؤسسي

عكس رد فعل ماريا فارمر عند اطلاعها على التقرير حجم الأذى النفسي الذي لحق بالضحايا نتيجة إنكار الدولة لرواياتهم، إذ قالت: "انتظرتُ ثلاثين عامًا.. لا أصدق ذلك"، مؤكدة أن السلطات لم تتخذ أي خطوات لوقف إبستين إلا بعد سنوات طويلة.

وأعربت عن حزنها العميق لأن هذا التقاعس "آذى كل هؤلاء الفتيات الصغيرات"، في توصيف يضع مسؤولية الانتهاكات في إطار مؤسسي لا فردي فقط.

انتقد المحامي المتخصص في تمثيل ضحايا إبستين، براد إدواردز، ما وصفه بإنكار الحكومة وجود تقرير فارمر وإخفائه، معتبرًا ذلك أمرًا "مخزيًا".

وأكد أن الاستماع إلى فارمر في التسعينيات كان من شأنه منع مئات حالات الاعتداء، داعيًا إلى إجراء تحقيق شامل مع كل موظف حكومي كان على علم بالتقرير وسمح باستمرار رواية تنفي وجوده.

وأشار التحقيق الداخلي الصادر عام 2020 حول تعامل وزارة العدل مع قضية إبستين إلى غياب أي ذكر لشكوى فارمر الأصلية، وهو ما عمّق شكوك الضحايا ومحاميهم بشأن أنماط التستر والتجاهل داخل المنظومة العدلية، وفق "نيويورك تايمز".

تفاصيل مثيرة للقلق

سرد التقرير الفيدرالي تفاصيل مثيرة للقلق حول طبيعة الشكوى، إذ ورد أن ماريا فارمر التقطت صورًا عارية لشقيقتيها، البالغتين من العمر 12 و16 عامًا، لاستخدامها في أعمال فنية شخصية، قبل أن يُقال إن جيفري إبستين سرق الصور والنيغاتيف.

وذكر التقرير أن إبستين طلب من فارمر التقاط صور لفتيات صغيرات في حمامات السباحة، مهددًا إياها بحرق منزلها إذا أفصحت عن الأمر

أوضحت فارمر أنها لم تتلقَ أي اتصال من مكتب التحقيقات الفيدرالي إلا بعد نحو عقد من الزمن، عندما بدأ تحقيق موسع انتهى بصفقة إقرار بالذنب لصالح إبستين في فلوريدا عام 2008، مضيفة أنها عاشت في خوف دائم بعد محاولتها الإبلاغ عنه.

وأكدت أن الشكوى لم تغطِ كل مخاوفها، إذ حثت المحققين على توسيع نطاق التحقيق ليشمل دائرة علاقاته الواسعة، بما في ذلك شخصيات نافذة مثل بيل كلينتون، الرئيس الأمريكي آنذاك، ودونالد ترامب.

 ولفتت فارمر إلى أن قلقها الأكبر كان مرتبطًا بغيسلين ماكسويل، الشريكة المقربة لإبستين، إلا أن الوثيقة لم تتضمن اسمها أو أسماء شخصيات نافذة أخرى، ما يعكس حدود ما جرى توثيقه رسميًا.

وروت فارمر واقعة قالت إنها جمعتها بترامب في مكاتب إبستين عام 1995، وهي رواية نفتها جهات رسمية لاحقًا، لكنها تظل جزءًا من سردية الضحايا حول اختلال ميزان القوة.

غضب الضحايا

أعلن نائب المدعي العام، تود بلانش، أن وزارة العدل الأمريكية لن تلتزم بالموعد النهائي لنشر جميع ملفات إبستين، رغم أن قانون شفافية ملفات إبستين، الذي أقره الكونغرس ووقعه الرئيس دونالد ترامب، منح الوزارة مهلة 30 يومًا لإتاحة جميع السجلات غير المصنفة المتعلقة بإبستين وغيسلين ماكسويل وغيرهما، بحسب مجلة "تايم".

وبرر بلانش التأخير بالحاجة إلى تنقيح الوثائق لحماية الضحايا، مؤكدًا أن مراجعة مئات الآلاف من الصفحات لا تزال جارية.

أثار هذا الإعلان استياءً واسعًا، لا سيما أن القانون ألزم الوزارة أيضًا بتوضيح أسباب حجب بعض الوثائق خلال 15 يومًا، وأشارت تايم إلى أن إبستين واجه تحقيقًا فيدراليًا في أوائل الألفية بعد شكوى تتعلق باعتداء على فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا، وأن مسودة لائحة اتهام تضمنت 60 تهمة جنائية، قبل أن تنتهي القضية بصفقة مخففة قضى بموجبها أقل من 13 شهرًا في السجن.

توفي إبستين عام 2019 أثناء انتظاره المحاكمة بعد توجيه تهم الاتجار الجنسي بالقاصرين، في قضية حظيت باهتمام وطني واسع بسبب علاقاته بشخصيات نافذة في السياسة والمال.

 ومع تصاعد الضغط الشعبي هذا العام، واجهت إدارة ترامب انتقادات حادة لتقليصها أهمية الملفات رغم وعود سابقة بالشفافية الكاملة.

نقد حقوقي

أدان ممثلو ضحايا إبستين وزارة العدل لعدم نشرها سوى جزء من الوثائق، معتبرين أن ذلك يمثل استمرارًا لحرمان الضحايا من العدالة، بحسب الغارديان.

وأشار محامو الضحايا إلى أن النشر الأولي لا يتوافق مع قانون الشفافية، رغم تأكيد الوزارة أنها ستنشر المزيد خلال الأسابيع المقبلة.

أكد المحامي سبنسر كوفين، الذي يمثل ضحايا إبستين، أن الضحايا لا يتوقعون الكثير من الشفافية بعد سنوات من المماطلة، مضيفًا أن نظامًا كان من المفترض أن يحمي الشابات ضللهم وكرر حرمانهم من العدالة، وفق صحيفة "الغارديان".

وانتقدت المحامية غلوريا ألرد ما وصفته بمقاومة الإدارة لنشر الملفات، متسائلة عما إذا كان هناك تستر لحماية نافذين.

وعبّرت الناجية من اعتداءات إبستين، جيس مايكلز، عن شعور مزدوج بالتأثر والتأكيد، معتبرة أن تعتيم وزارة العدل أصبح واضحًا للعيان، حتى في ظل قانون صادر عن الكونغرس.

انتصار ومأساة في آن واحد

وفي المقابل، وصفت المحامية جينيفر فريمان، التي تمثل ماريا فارمر، نشر بعض السجلات بأنه يوم "انتصار ومأساة في آن واحد"، لأنه أكد صحة بلاغ فارمر عام 1996، لكنه كشف حجم المعاناة التي كان يمكن تجنبها.

ونشرت وزارة العدل آلاف الملفات المتعلقة بإبستين، لكنها جاءت منقحة وغير مكتملة، ولم تكشف معلومات جوهرية عن التحقيقات الجنائية المطولة أو علاقاته بشخصيات نافذة، وفق "أسوشيتد برس".

وتضمنت الوثائق صورًا وسجلات مكالمات ونصوص مقابلات، إلا أن كثيرًا منها كان متاحًا سابقًا، ما خيب آمال المطالبين بكشف الحقيقة كاملة.

وسلطت الوكالة الضوء على التباين في حضور أسماء شخصيات سياسية داخل الملفات، مشيرة إلى بروز اسم بيل كلينتون في صور متعددة، مقابل حضور محدود لدونالد ترامب، رغم علاقته الموثقة بإبستين في السابق.

وأكدت الوكالة أن مجرد ورود الأسماء لا يعني توجيه اتهامات، لكنها يعكس طبيعة الشبكات التي أحاطت بالقضية.

وأعادت الوثائق المنشورة التأكيد على أول بلاغ معروف عن سلوك إبستين، وهو تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي عام 1996، دون توضيح ما إذا كان قد اتُخذ أي إجراء بشأنه، بحسب أسوشيتد برس. 

وأعادت كذلك تسليط الضوء على تساؤلات الضحايا حول سبب إغلاق التحقيق الأولي عام 2008، في سياق لا يزال يفتقر إلى إجابات شافية.

خلفية القضية

بدأت قضية إبستين علنًا عام 2005 بعد تحقيق شرطة بالم بيتش في شكوى تتعلق باعتداء على فتاة قاصر، قبل أن تتوسع التحقيقات وتجمع شهادات من فتيات قلن إنهن استُخدمن في أنشطة جنسية، وانتهت القضية حينها بصفقة قضائية مثيرة للجدل.

ولاحقًا، وُجهت تهم الاتجار الجنسي لإبستين عام 2019، ثم لغيسلين ماكسويل التي أُدينت عام 2021 وحُكم عليها بالسجن 20 عامًا.

ويطرح الجدل المتجدد حول ملفات إبستين سؤالًا جوهريًا عن معنى العدالة حين تتأخر، وحدود الشفافية حين تُجزأ، وحق الضحايا في الحقيقة الكاملة بوصفه حقًا غير قابل للتصرف، لا يخضع لموازين السياسة أو النفوذ.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية