بيلاروسيا.. بيضاء أم شيء آخر؟!
بيلاروسيا.. بيضاء أم شيء آخر؟!
باسم ثروت
لا يكاد الاتحاد الأوروبي أن يخرج من أزمة ليصطدم بأخرى، فبعد اضطراب العلاقات الأوروبية الأمريكية في أزمان دونالد ترامب الذي طالبهم بالاشتراك بنسبة أعلى من ميزانية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وصولاً إلى بايدن الذي أبرم اتفاقاً جديداً مع أستراليا وإنجلترا (اكوس)، هذا الاتفاق الذي يعد بمثابة زلزال في الأحلاف الدولية، الأمر الذي يصنع شرخاً كبيراً في معسكر حلف الناتو الذي يشهد اجتراراً من الولايات المتحدة الأمريكية لتغير عقيدته العسكرية.
الشاهد هنا، أن الولايات المتحدة ترغب في جر أوروبا إلى القارة الآسيوية لمواجهة الصين شاغلتها الأولى في حاضرات الزمان وحوض المحيط الهادئ كنوع من أنواع إجبار أوروبا لتحارب حرب الولايات المتحدة في آسيا وهذا يناقض جوهريا العقيدة العسكرية لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
وبطبيعة الحال، هناك من يرى في هذا الانقسام ضالته فمن هو أكثر المستفيدين من تغير العقيدة العسكرية لحلف شمال الأطلسي وتوجيه أنظار الاتحاد الأوروبي نحو الصين؟ بالطبع روسيا هي المستفيد الأكبر من هذا التغير شبه الجبري. روسيا الطامحة في احتلال أوكرانيا وضمها إلى كنفها كما فعلت في شبه جزيرة القرم عام 2014.
لكن يبقى التساؤل الذي يحير الأذهان، ما هي علاقة بيلاروسيا بكل ما تم سرده فيما سبق؟
حتى نجيب عن هذا التساؤل لا بد وأن نسترجع الأحداث التي وقعت مؤخراً بدءاً من نتيجة الانتخابات الرئاسية في بيلاروسيا وصولاً إلى أزمة اللاجئين على حدود بيلاروسيا مع بولندا ودول الاتحاد الأوروبي.
كانت البداية حين فرض الاتحاد الأوروبي العام الماضي عقوبات على بيلاروسيا عقب الانتخابات التي أسفرت عن فوز لوكاشينكو بولاية جديدة، حيث شككت أوروبا في مصداقية نتائج هذه الانتخابات، فضلاً عن حملات قمعه لمعارضيه.
ونتيجة لذلك، استخدم ألكسندر لوكاشينكو ورقة اللاجئين، فكما أفادت تقارير أوروبية فقد فتح لوكاشينكو التأشيرات لطالبي اللجوء من الدول التي تعيش أوضاعا إنسانية مأساوية في الشرق الأوسط وأفريقيا، للعبور للاتحاد الأوروبي عبر بولندا التي أغلقت حدودها أمامهم، الأمر الذي تنفيه بيلاروسيا تماماً، وأصبح هناك تجمع للاجئين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا.
ثم عاودت أوروبا تشديد العقوبات مرة أخرى بعد تفاقم هذه الأزمة، حيث وافق الاتحاد على فرض جولة خامسة من العقوبات لاستهداف 30 فرداً وكياناً بيلاروسياً، منهم وزير الخارجية وشركة الطيران المملوكة للدولة بيلافيا، كما أنه من المتوقع أن تفرض الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا قيوداً جديدة لزيادة عقوبات الاتحاد الأوروبي، وتشكيل رد فعل موحد بين الدول الأوروبية والأطلسية رداً على الأزمة.
الشاهد هنا، أن لوكاشينكو لم يقف ساكناً، بل هدد بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، إذا فرضت عقوبات جديدة على بلاده، حيث قال: نحن نمد أوروبا بالتدفئة وهم يهددوننا؟ وهنا يشير إلى خطوط الغاز الروسي التي تمر عبر أراضيه إلى أوروبا، وماذا لو أوقفنا إمدادات الغاز الطبيعي؟ لذلك أوصي قيادة بولندا وليتوانيا وغيرهما من أصحاب الرؤوس الفارغة بالتفكير قبل التحدث.
اللغز المحير هنا، ما الروابط بين بيلاروسيا وروسيا اللاجئين والغاز والشتاء والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا؟
إجابة اللغز هي روسيا، ففي خطوة غير مسبوقة منذ عام 2014 حين احتلت روسيا شبه جزيرة القرم، لم تشهد الحدود الروسية الأوكرانية حشد عسكرياً بهذا الحجم الذي عليه الآن، فحسب تصريحات وزير الدفاع الأوكراني دميترو كوليبا خلال مؤتمر صحفي عبر الإنترنت فقد حشدت روسيا 115 ألف عسكري عند حدودها مع أوكرانيا وفي شبه الجزيرة القرم وفي المناطق الأوكرانية الواقعة تحت سيطرة الانفصاليين في شرق البلاد.
ولا يخفى على أحد العلاقات الوطيدة بين روسيا وبيلاروسيا فبينهما معاهد تسمى “الدولة الواحدة” وقعها الرئيس الروسي حينها بوريس يلتسين، مع رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو في عام 1996، ودخل الاتفاق حيز التنفيذ عام 1999، وبلغ الامر بلوكاشينكو بأن صرح بأن بيلاروسيا مستعدة للاتحاد مع روسيا في دولة واحدة، ناهيك عن التعاون الاقتصادي والعسكري.
ومن ذلك، يمكننا الوصول إلى نتيجة مهمة، وهي أن الدب الروسي بوتين قد يكون استخدم لوكاشينكو لتوجيه نظر أوروبا وحلف الناتو إلى أزمة اللاجئين بعيداً عن أوكرانيا فيما يعرف بالعامية بمبدأ “انظر العصفور”، واستخدام ورقة المهاجرين للضغط على الأوروبيين وكإنذار لهم في حال دخلت روسيا أوكرانيا وحاول الناتو أخذ أي ردة فعل، سيكون الرد من خلال الحدود البيلاروسية حيث يعبر اللاجئون نحو أوروبا.
كما أن استخدام لوكاشينكو لورقة وقف إمدادات الغاز الروسي الذي يمر من خلال بلاده، هي ليست أكتر من مجرد خطة ذات بعدين من موسكو، البعد الأول تثبت فيه موسكو أن ما يفعله لوكاشينكو على الحدود مع بولندا وسماحه للاجئين بالعبور والحشد ليس لروسيا يد فيه، بمعنى أن لوكاشينكو يهدد بقطع الغاز الذي تبيعه روسيا لأوروبا، الأمر الذي يعني خسارة لكل منهما، أي روسيا وأوروبا.
البعد الثاني، هو تهديد مستتر من الدب الروسي بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا في حال دخل أوكرانيا وفكر الناتو أو الاتحاد الأوروبي بأخذ أي إجراء ضده عسكرياً كان أو اقتصادياً، وهنا تكمن دلالة التوقيت وهي بداية فصل الشتاء حيث البرد القارس في أوروبا، التي تعتمد فيه التدفئة وتوليد الطاقة على واردات الغاز من روسيا فهي المورد الأكبر لأوروبا، ففي حال فكرت أوروبا في أي رد فعل يقطع الغاز ليموت الأوروبيون في البرد القارس ويحدث انهيار اقتصادي بسبب قطع موارد الطاقة.
إجمالاً، إن الدب الروسي بوتين يثور ويجول لكن تحت الرماد، دون أن يحدث جلبة أو بلبلة، يتبع نهج سياسة الظل فيضرب من تحت الحزام، قد تخطئ حسابات الدب الروسي وتتطور الأوضاع إلى حرب كونية رابعة في حال دخول روسيا أوكرانيا فلن تقبل أوروبا تهديداً ومداً روسياً محتملاً على حدودها الشرقية، الأمر الذي قد يدفعها للرد ويجتر العالم أجمع إلى حرب قد تكون محددة لمصيره.. فهل نحن في خضم نهاية الأزمان أم ماذا؟